شيءٍ ما يدور في داخلي .. كان يزعجني كثيرًا ولم أكن أفهمه .. كان يقلقني ولم أستطيع أن أسيطر عليه .. أراه يجول في داخلي يصرخ ثم يهدأ، إنه الصراع الذي شطرني إلى نصفين وأوجد في داخلي ثنائية طالما عانيت منها، إنه صراع قاسي بين الروح والجسد، صراع كان يأخذني بعيدًا عن نفسي ويلقيني في بحر الشكوك. فأصبحت أشك في كل شيء. هل أنا حقًا مكون من روح وجسد؟ هل هذا الصراع حقيقي أم أنه خيال نابع من النفس البشرية وإنفعالاتها؟ هل يوجد ما يسمى بالروح أم أن الروح هي مجرد خيال، وخاصةً أنه لا يوجد إنسان قد رأها فهي غير مادية وغير ملموسة بالنسبة لنا، فإن كانت الروح خيال يكون الله هو أيضًا خيال. وهذا معناه أنني أتعبُ وأجاهد في هذه الدنيا بلا ثمن .. معناه أنني سوف أتحمل الألم والتعب والمرض بلا مقابل، فلا داعي إذن لحياة الفضيلة حيث أنه لا يوجد إله، فوضعت يدي على رأسي من كثرة الحيرة والتفكير وأغمضتُ عينيَّ قليلاً لكي أهدأ وأفكر في الأمر، وقُلْتُ لنفسي طالما أني أشك إذن أنا مخلوق غير كامل لأنني لو كنت كامل لعرفت الحقيقة كاملة دون شك. وطالما أنا مخلوق غير كامل إذن أنا لم أخلق نفسي، لأني لو أنا الذي أوجدت نفسي لخلقت نفسي مخلوق كامل. ونظرت إلى نفسي من الداخل فوجدت في نفسي عنصرين أحدهما عنصر محدود متناهي لا يتعدى حدود الجسد مثل إحتياجات الجسد من أكل وشرب ونظافة وغيرها، وآخر غير متناهي أي يتعدى حدود الجسد المحدود وهو الذي يعطي الذات القدرة على الإمتداد والإتساع من خلال الخيال، فأنا قد أكون موجود في بلد ما ويمتد خيالي عبر القارات ليصل إلى بلد آخر، وهذا العنصر هو الروح. وتأملتُ نفسي أيضًا ووجدت أن مشاعري ليست مجرد تفاعلات كيميائية صادرة عن المخ كما يقول بعض العلماء. وهنا توقفت عند سؤال وهو: من أين تأتي هذه التفاعلات؟ هل من الجسد؟ فلو كان الأمر هكذا لكان في مقدرة الإنسان أن يأخذ قرص برشام لكي يحب شخص معين، أو يأخذ حقنة لكي ينسى شهوة تتعبه .. فلابد أن مصدر هذه التفاعلات ليس الجسد ولكنه الروح وتتم من خلال الجسد. فلو كانت إنفعالات الإنسان سببها الجسد فقط والروح ليس لها وجود، فما التفسير لحركات الإستشهاد التى يدفع فيها الإنسان نفسه للموت وهو راضي ومقتنع، أو أن يضحي الانسان بحياته لأجل مبدأ أو فكر معين؛فنجد مثلاً سقراط كان أمامه خياران إما أن يتنازل عن أفكاره أو أن يشرب السم القاتل، وقد فضل أن يشرب السم ويموت،ولذلك يقال عنه أنه تجرع السم راضيًا. فما الذي دفع سقراط أن يموت بإرادته .. هل الجسد؟؟ بالطبع لا، لأنه من الغير المنطقي أن يدفع الجسد نفسه للموت. فما تفسير هذا الحدث إذن؟؟ إنه عنصر آخر غير الجسد ولكنه أسمى وأرقى منه في المستوى، لأن هذا العنصر هو الذي تغلب على الجسد في لحظةٍ ما وقاده إلى الموت. حتى لو كان الدافع للموت سبب غير مقنع بالنسبة للناس ولكنه مقنع بالنسبة لروح هذا الإنسان وهذا يكفي. وهنا نأتي لنقطة هامة جدًا وهي أن الروح لابد أن تكون تحت قيادة الله لكي يضبط دوافعها ورغباتها. وعندما تتحد الروح بالله فإنها تخرج من نطاق المحدودية إلى اللامحدودية، لأن الله غير محدود والروح مهما كانت قدراتها فإنها محدودة. وأخيرًا رأيت في نفسي كيان واحد، وهذا الكيان الواحد يحمل ثنائية عجيبة، فيوجد شيء في داخلي يدفعني إلى الخير وشيء يمنعني عنه. فلابد أن هذا الذي يدفعني للخير هو الروح الذي مصدرها الله، والشىء الآخر هو الجسد الذي مصدره التراب. ثم ما الذي يجعل لي كيان واحد .. هل الجسد؟؟ بالطبع لا. لأن الجسد يتغير مع الزمن فهو يخضع للزمن، فالجسد تتغير هيئته وحالته مع مرور الزمن. فلماذا لا يكون للإنسان أكثر من كيان مع مرور الزمن؟؟ فمثلاً يكون له كيان في الطفولة وكيان آخر في سن الشباب وآخر في سن الشيخوخة، ولكن الواقع أن الإنسان له كيان واحد فقط في جميع مراحل حياته، فلابد إذن من وجود شيء لا يخضع للزمن ولا يتغير بمروره لكي يحفظ للإنسان كيانه عبر الزمن، هذا الشىء هو الروح