يقال إن الشيء الوحيد الثابت في هذه الحياة هو التغيير! لكن التغيير من أكثر الأشياء التي يميل أغلبنا لمقاومتها، خاصة إن كان يعني الخروج من دائرة راحتنا، والاضطرار للتخلي عما اعتدنا عليه لفترة من الزمن، أو النزول من قمة وصلنا إليها لنبدأ من جديد في وادٍ لم نألف السير فيه من قبل. دوام الحال من المحال، ولابد أن يأتي وقت نودع فيه العالم الذي نعرفه، لنخطو إلى مرحلة جديدة من العمر نستكشفها.
بعد أن خرج نوح من الفلك، وعد الله بألا يهلك الإنسان بطوفان آخر، ثم أعلن أن الحياة ستسير في مواسم: «ما دامت الأرض باقية، فالزرع والحصاد، والبرد والحر، والصيف والشتاء، والليل والنهار، لا تبطل أبدًا» (التكوين ٨: ٢٢). لكن منذ ذلك الحين والإنسان في صراع مع نظام المواسم.. فعندما تشتد حرارة الصيف نشتاق لأيام الشتاء، ولسعة برد الشتاء تجعلنا ننتظر بفارغ الصبر موسم الصيف. في مقتبل العمر نسعى للزواج، وعندما نتزوج نتمنى أن يكون لنا أطفال، وعندما يولدون نريدهم أن يكبروا، ثم نشجعهم أن يتزوجوا وينفصلوا عنا.. لكن عندما يصبح البيت خاليًا نفتقد وجودهم ونرجو عودتهم، ولو لوقت قصير؛ فالأحفاد مع أنهم مُسلون لكنهم مزعجون! أثناء سنوات الدراسة نحلم بالتخرج، وبعد التخرج نريد وظيفة، لكن مع تعب والتزامات العمل نفكر أن المعاش راحة، وفي موسم المعاش يكون لسان حالنا “يا ليت الشباب يعود يومًا!” أحيانًا يبدو أن لا شيء يرضينا!
عندما نعاني في هذه الأيام من النتائج المصاحبة للإصلاح الاقتصادي، يتمنى بعضنا العودة للقديم، ناسين أن هذه المرحلة في حياة بلادنا لا تحقق سوى ما خرجنا مع الملايين إلى الشوارع والميادين مرتين لنطالب به. لقد عبرنا كأمة إلى موسم جديد، فرحنا في بدايته بالخلاص من الماضي الرتيب، ثم أنقذنا الله من مستقبل مظلم رهيب. لكن عندما تصعب الظروف نتمنى لو أن أيام زمان تعود، غير مدركين أن التغيير يتطلب وقتًا، ومعه لابد من تحمل بعض التضحيات، وأنه لا رجاء في مستقبل أفضل إلا بصبرنا، وتوقعنا للأفضل بالإيمان حتى نظفر به.
ربما لا يختلف حالنا اليوم كثيرًا عن حال شعب الله في القديم.. لقد حررهم الله من العبودية في مصر، وقادهم إلى موسم جديد فيه أراحهم من أعدائهم، وفي البرية أمدهم باحتياجاتهم اليومية من الطعام والماء، ولم تبلَ ثيابهم عليهم، ولا نعالهم في أرجلهم. لكن بالرغم من كل ما فعله الله لأجلهم، لم يكفوا عن التذمر والشكوى، وباستمرار كانوا يطلبون المزيد في غير اكتفاء. لقد أرادو أن يكون زمام أمور حياتهم وظروفهم ومصيرهم تحت سيطرتهم، بدلا من الاعتماد على الله الذي كان يخطط لخيرهم.. وماذا كانت النتيجة؟ لقد هلك جيل بأكمله قبل أن يتمتعوا بالميراث الذي وعدهم به الرب.
لم تكن رحلة شعب الله في البرية نزهة سهلة ولطيفة، لكن مغامرة إلى المجهول تحتاج لإيمان، وموسمًا للتغيير لابد من اجتيازه بكل صعوباته قبل العبور إلى الأرض الجديدة التي وعد الله أن يأخذهم إليها. فلنتشجع إذن في هذه المرحلة الصعبة من حياتنا؛ لأن الرب الذي كان يعرف الطريق عبر تلك البرية، هو نفسه الذي يعرف الطريق الذي نسير نحن فيه الآن.. ولعل كل ما يطلبه الله منا اليوم هو أن نقبل ما يفعله بثقة كاملة فيه، وبامتنان لعمل نعمته في حياتنا الشخصية والأسرية، وبنفس القدر في حياة أمتنا وشعبنا.. «لأني عرفت الأفكار التي أنا مفتكر بها عنكم، يقول الرب، أفكار سلام لا شر، لأعطيكم الغد الذي ترجونه» (إرميا ٢٩ :١١).
لقد صاغ الله قصة حياة كل واحد منا قبل فجر التاريخ، وصمم تفاصيل أيامنا قبل أن ينطق بالكلمة الأولى التي كسرت ظلام الكون بنور الخليقة. لقد عبَّر داود النبي عن هذه الحقيقة بكلمات مزموره: «عجيبة هي أعمالك… ما خفيت عظامي عليك، فأنت صنعتني في الرحم، وأبدعتني هناك في الخفاء، رأتني عيناك وأنا جنين، وفي سفرك كُتبت أيامي كلها، وصُورت قبل أن يكون منها شيء» (مزمور ١٣٩: ١٤- ١٦). وقد أعطى الرسول بولس بعدًا آخر لهذا الحق بإعلانه: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم» (أفسس ١: ٣ – ٤).
عندما يحين الوقت لبدء فصل جديد في حياتنا، يمكننا أن نتوقع أشياء جيدة قادمة، أو في تشاؤم ننتظر حدوث الأسوأ. هذا التوقع أو الانتظار يعتمد على الكيفية التي ننظر بها إلى مؤلف فصول حياتنا، وطبيعة علاقتنا معه: هل نثق أنه قادر أن يكتب قصة جيدة لحياتنا؟ هل نطمئن إلى حقيقة أن لديه خطة ونوايا حسنة بالنسبة لنا؟ هل نؤمن أنه يهتم بكل فقرة وكلمة وعلامة ترقيم تحكي قصة حياتنا؟ الإجابة على هذه الأسئلة تحدد الطريقة التي نستقبل بها المواسم الجديدة في حياتنا.
“لماذا نحبس أنفسنا في ذكريات الماضي، وننشغل بالتفكير في القديم. انتبهوا فها أنا أقودكم إلى موسم جديد، وإن كنتم تجهلونه، ثقوا في أنني في الصحراء أستطيع أن أشق طريقًا، وفي القفر أجري الأنهار، لأروي عطش كل مَنْ يؤمن بي.” (قراءة شخصية لكلمات النبي إشعياء: «لا تذكروا الأوليات، والقديمات لا تتأملوا بها. هأنذا صانع أمرًا جديدًا الآن ينبت.. ألا تعرفونه؟ أجعل في البرية طريقًا، في القفر أنهارًا؛ لأسقي شعبي مُختاري» (إش ٤٣: ١٨ – ١٩).)