كان المصريون القدماء منذ الأزمنة الغابرة يتصورون أن الحياة بعد الموت تشبه كل تفاصيل حياتهم على الأرض، ولذلك كان الموت مناسبة لممارسة طقوس دينية من أهمها التحنيط ودفن الجثمان، وكان الكهنة يقومون بهذه الشعائر ويخصصون مبالغ من المال للقرابين ولصيانة مدينة الموتى. واثناء الإحتلال الرومانى لمصر ظل المصريون القدماء متشبثين بفكرة وجود حياة بعد الموت، على الرغم من التطور الملحوظ الذى طرأ على الفن الجنائزى لديهم.وبظهور المجتمع المسيحى الناشئ، تعرض هذا التصور لتغيرات جذرية، فالأمل بدخول الفردوس فى الآخرة جعل الطقوس الجنائزية القديمة كالتحنيط وتزويد الميت بما يلزم لمواصلة الحياة بعد الموت خرافة بالية، غير أن تقاليد ولائم العزاء وطقوسه أستمرت.ومن الواضح أن التغير الجذرى الذى طرأ على المعتقدات الدينية عند المصريين لم يقض تماماً على تعلق البشر بذكرى أحبائهم الراحلين ولا على رسوخ بعض التقاليد القديمة، ويشهد إعداد الجسد وإيداع بعض الأشياء إلى جانبه فى القبر، وشكل القبر الخارجى والنصب انه لم يكن من الممكن تغيير كل تلك الطقوس دفعة واحدة، وإن جرى التعامل معها من خلال منظور رمزى جديد.وتقول النصوص القبطية “حين يحل الموت، تأتى الملائكة لتنقل روح الميت إلى السماء، وبعد ذلك، يتولى الأحياء تكفين الجسد ودفنه”، وقد كشفت لنا الحفريات الأثرية عن تقنيات معالجة أجساد الموتى المستعملة لدى قدماء الأقباط، صحيح أن هؤلاء لم يستخدموا التحنيط ولا تفريغ أحشاء الميت ولا استخراج دماغه ولم يقوموا بتطيب الجسد، كما كان يفعل الفراعنة، إلا أن مظهر الجثث التى كشفت عنها الحفريات كانت تدعو للدهشة لدرجة أن البعض وصفها بـ “المومياءات القبطية” نظراً لحفظها الجيد، وأغلب الظن أن بعضها قد عولج بالأملاح والنطرون (كربونات الصوديوم) والمراهم، وأحياناً القار، وقد خلفت هذه المواد على الأكفان بقعاً رمادية ورائحة خاصة، كذلك فإن طقس مصر الجاف لعب دوراً فى صيانة الجثث وحفظها، وكان الأقباط الأوائل خلافاً لأجدادهم الذين كانوا يدفنون عراة إلا من شرائط خفيفة تلُف أجسادهم، كانوا يفضلون الصعود إلى السماء بثياب جديدة وبفضل هذه التقاليد، أستطاع الكشف عن فن الحياكة والنسيج عبر الحالة الجيدة للملابس المكتشفة أثناء الحفريات، حيث وجدنا ملابس أطفال وبالغين مكونة من جلاليب عديدة مرتداة الواحد فوق الآخر وشالات وأحذية، بينما كان رهبان “طيبة” يرتدون وزرة من الجلد، وكان النساء يصففن شعرهم بشبكة ويرتدين خماراً تعلوه “طرحه” ملونة.
وفى مطلع القرن العشرين كشف عالم الآثار “ألبير جاييه” عن الآف الجثث فى مدينة الموتى “أنصنا” كما وجد عدداً كبيراً من الثياب، وكان النهب مصير بعض هذه الملابس، فى حين أودع البعض الآخر فى متاحف فرنسا وبلجيكا، ولا تزال هذه الثياب فى حالة مماثلة للحالة التى كانت عليها فى القبور… ومعظم الأكفان المكتشفة مصنوعة من أقمشة كتانية أو من أقمشة كانت بالأصل ستائر أو أغطية أو شالات، وكانت الجثة تلف بهذا القماش لفة واحدة أو أكثر بحيث تشكل كتلة هندسية، ولهذا الغرض كانت الفراغات بين الجسد والكفن تحشى بقطع إضافية من القماش، وكان تحزيم الأكفان يتم بجدائل من ألياف النخيل وبحبال وشرائط معقودة بمهارة، كما كانت حبّات البخور وثمار العرعر ونباتات أخرى توضع داخل الكفن، وكان الجسد المجهز بهذه الطريقة يحمل هوية صاحبه فى هيئة ختم من الرصاص أو الغضار، ويشبه كثيراً شكل المؤمياء الفرعونية، وفى بعض الحالات كان الكفن يغطى كامل الرأس ويتجاوزه، ونادراً ما كان التابوت يحمل كتابات تدل على محتواه.وبين الأشياء والأدوات التى تودع فى القبر إلى جانب الميت، نجد رموزاً دينية مسيحية، بالإضافة إلى عدد محدود جداً من اللوازم البسيطة مثل الألعاب والملابس والأشياء التى تدل على أناقة الفقيد وهواياته ومهنته، هذا إلى جانب كل مايدل على ثراء الميت مثل الأوانى والمصابيح (التى تمثل نور الحياة)، وفى مقبرة “المُديل” نجد كتاب تراتيل موضوعاً تحت رأس طفلة، دلالة على حرص أبويها فى حمايتها.الطريف فى الأمر أنه على الرغم من كثرة المقابر المكتشفة، يصعب وصف مقبرة قبطية نموذجية، وذلك لإختلاف أشكال المقابر وتعدد تصاميمها.
المرجع
مقال لـ دومينيك بينازيت من كتاب الفن القبطى فى مصرى 2000عام من المسيحية- إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب