في أجواء تراثية، تزين بيت السناري ذو التاريخ العريق بـ”لوحات” تحمل في طياتها الحياة النوبية البسيطة والخرافية في آن واحد، حيث الألوان المبهجة والمعاني العميقة من وراء هذه الرسوم، فبهذه اللوحات تزينت جدران بيت السناري.
بتلك البساطة استطاعت ضيافة بيت السناري أن تنقل لنا الأجواء النوبية، إلى القاهرة، ومثلما أكد أ.محي الدين – أحد أهالي النوبة، والقائم على تقديم الحفل، ومترجم كتاب “زينب كوتود” من النوبية إلى العربية- حين قال :”ما دام أهل القاهرة لم يأتوا إلينا.. إذن فلنأتي نحن إليهم”.
بدأ أ.محي الدين الحفل بتقديم الشكر إلى مكتبة الأسكندرية بأفرعها وتوابعها، و مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي، الذي أتاح الفرصة لكتاب “حواديت زينب كوتود” أن يخرج إلى النور، ثم بدأ في تقديم الضيوف.
وكانت كلمة الاستهلال للمهندس محمد فاروق، مدير مركز توثيق التراث الحضاري و الطبيعي في مكتبة الأسكندرية، و الذي أكد أن هذا لكتاب من أهم إصدارات المركز، لأنه يوصل ثقافتنا بتراث عزيز وهو التراث النوبي.
ثم واصل حديثه عن مركز التوثيق، قائلًأ :”مركز التوثيق ابتدى عام 2000، وأهدافه التوثيق الرقمي لكل ما هو تراث مصري، التراث في مصر أغلى و أعز ما نملك؛ لأن مصر غير متقدمة في الزراعة أو الصناعة. و لكنها متميزة في التاريخ و الحضارة؛ لذلك هو من أهم المكتسبات التي نعمل عليها”.
وأوضح “فاروق” معنى التراث، حسب تقسيم منظمة اليونيسكو، إذ أنه مقسم إلى حضاري وطبيعي. والطبيعي، هو ما لم تتدخل فيه يد الإنسان، أما المادي الحضاري، فهو المادي والملموس والتراث الأدبي المكتوب، والفرع الآخر منه، هو التراث المعنوي، والذي يصعب الحصول عليه، مثل :”الأمثال الشعبية، الحرف اليدوية، العادات والتقاليد”، وذلك هو الذي يشكل هوية كل شعب، مثل التراث لنوبي.
وأشار إلى أن أهم أهداف مركز التوثيق، نشر هذه الثقافات التي تعبر عن هوية البلدان. ثم دعى الحضور لزيارة المركز بالقرية الذكية. مؤكدًا أن التراث النوبي شيء عزيز وله جذور وأصول يجب التتعرف عليها.
“كتاب يجمع حكايات الطفولة”
و انتقلت الكلمة بعد ذلك إلى أ.د زهران محمد جبر، أستاذ الأدب المقارن والنقد في جامعة الأزهر، فقال :”هذا الكتاب جمع الحكايات التي كنا نسمعها ونحن صغارًا، حين كانت تلعب الجدة في شعورنا حتى ننام، وقد جمعها الراحل إبراهيم شعرواي، عن لسان جدته”.
واسترسل “جبر” بعد ذلك في حديثه عن الكاتب، حيث قال إنه نمى موهبة القص والكتابة الأدبية من جدته، وهي ساعدته كثيرًا في كتابة أعماله الأدبية، حيث أن أكثر من ربع أعماله ترجع لأدب الطفل، الذي هو من أصعب فنون الأدب، لا يكتب فيه إلا من كان تمكنًا من أدواته.
ولفت “جبر” إلى أن الكاتب حين اعتزل الحياة الأدبية عاد إليها مرة أخرى بالحواديت، مضيفًا أن هناك العديد من الكتب والرسالات التي تناولت فن و أدب إبراهيم شعراوي بالتحليل. وأشار إلى أن الكتاب ألف أكثر من 50 كتاب، وعاش حوالي 20 عامًأ في عمان، وقد كان رائدًا أدبيًا هناك. ثم تحدث عن التشكيل الثقافي للكاتب، الذي تأثرت حياته العلمية بالظروف المادية، ولكنها لم تؤثر على مسيرته الثقافية أو الأدبية.
وواصل أستاذ الأدب المقارن والنقد حديثه عن كتاب “حواديت زينب كوتود”، قائلًا :”زينب كوتود تعني أنها جدته من ناحية أمه، وهي التي كانت تحكي له الحكايات”.
وانتقد جبر وصف رئيسي في الحفل والكتاب، وهو كلمة لتراث، حيث قال:”هناك فرق بين السائد و البائد، لأن السائد امتداد لما هو موجود، و البائد هو الذي له تراث. و نحن مازلنا نسمع الحواديت. فالتراث النوبي مازال سائدًا يتمثل في حياتنا، فالأجدر أن نقول إنه نوع من الإحياء و التجديد للتراث. نحن متواصلون مازلنا نعيش ومازالت النوبة تعيش في أعماقنا، أما فيما ينقطع نقول تراث”.
“سلمي تروي رحلتها مع الرسم “
وعرضت بعد ذلك سلمى كمال، الرسامة التي قامت باللوحات المعروضة على جدران بيت السناري في تلك الاحتفالية، والتي انبهر الجميع، بوجود هذه الرسوم في الكتاب، موظفة كل منها وفق كل حكاية، فقد سردت مشوارها مع رسوم الكتاب، قائلة:”لي الفخر بأني شاركت في هذا الكتاب، وأنا مصرية قاهرية”. ثم مزحت :”أنا أخذت الجنسية النوبية خلاص من أهالي النوبة، لأنهم مكنوش مصدقين أني مصرية فادوني الجنسية النوبية”.
وتحدثت عن رحلتها مع رسم ذلك الكتاب، قائلة:”أنا رسمت الرسومات دي لأني بحب النوبة، وأهالي النوبة جدًا، ومركز توقيث التراث ساعدني، في أنهم أعطوني القصص وتركوا لي حرية الرسم وفق إحساسي بها وتخيلي لها، وكذلك أمي أعطتني من خبرتها الكثير، ودعمتني نفسيًا وكانت تضع ملاحظاتها، لهتمامها بالتراث”. وتمنت سلمى، خروج ذلك الكتاب بره مصر لنشر الثقافة النوبية.
وكان لعادل موسى الذي قام بإعداد الكتاب ، وأحد المسؤولين عن التراث النوبي في مركز التوثيق، حضورًا مختلفًا، حيث سرد أحد حواديت الكتاب، والمعروفة باسم “بروكي”، مما أثار اهتمام الحضور وصمتهم للاستماع إلى أحد حواديت الكتاب على لسان “واحد بتاع حواديت”، حسيبما وصف نفسه.
ثم صرح بأن هذه الحواديت ستنتقل إلى الإذاعة، مستقبلًا وأحد موضوعات الخطة له.
وبعد أن انتقلت الكلمة للمقدم النوبي محي الدين، قال :”قصة بروكي دخلت مرحلة حوار الثقافات، و أخذها الأخوين بريم و جريم عام 1860، حوروا فيها بعض التعديل، و ظهرت بعدها قصة عقلة الإصبع نموذجا، وهذا يؤكد أنهم من أخذوا منا وليس العكس”.
فيما تحدث أ.د مصطفى عبدالقادر خبير التراث النوبي، و عضو لجنة الفنون الشعبية في المجلس الأعلى للثقافة، عن الثثقافة النوبية، مؤكدًا على ما قاله د.زهران جبر حول الفرق بين السائد والبائد ، وقال إن الحضارة سابقة، بينما الثقافة ممتدة لأنها ثقافة شعب. مشيرًا إلى أن التراث هو كل ما يرثه الخلف عن السلف.
وأثنى “عبدالقادر” على دور الرسامة سلمى كمال، مؤكدًا أنها أضافت للكتاب أكثر من 50% من قيمته بهذه الرسومات، خاصة صورة الغلاف ، وهي صورة الجدة التي يجتمع حولها الأحفاد.
وبدأ حديثه عن البيت النوبي وتقسيماته، والتي بها غرفة للشتاء بها المنقد للتدفئة، وبرندة في الصيف للتهوية، وذلك أكبر احترام للطبيعة البيئية للبلد.
وتحدث عن الأخوين بريم و جريم الألمانيين، الذين اعترفوا أنهم لم يصلوا إلى أصول الكثير من حكاياتهم بسبب عائق المكان واللغة، وأكد “عبدالقادر” أن هذه الحواديت موجودة بنصوصها كاملة في النوبة. وأشار إلى أن ستيف طومسون هو أول من جمع الحواديت مفهرسة، معترفًا أنه لم يتمكن من الوصول للأصول بسبب عائق اللغة والمكان.
واعتقد عبدالقادر، أن بعض هذه الحكايات التي تحدث عنها ستيف طومسون نوبية، والتي تعتبر لغة غير مفهومة للكثيرين.
وبدأ أستاذ الفنوان الشعبية، الحديث عن فن الحواديت، متطرقًا إلى جانبه التعليمي التربوي وليس الترفيهي فقط ، حيث كانت تسأل الجدة الأحفاد إلى أين وقفوا بالأمس وما الذي فهموه من القصة وما تعلموه أيضًا.
وأشار أيضًا إلى قيم تعليمية هامة، وسرد حكاية :”البيضة والولد”، التي تعلم الصغار الاستثمار والتجارة، فقد صار الطفل رحلته بالبيضة إلى أن وصل البيت يجر جملًا بعد مقايضة البيضة بأشياء ثمينة تصاعدية.
وطالب “عبدالقادر” بتجسيد هذه الحواديت صوتيًا بلغة اليوم، موضحًا أنه أصعب من الصعوبة وجود تجميع مثل هذه الحواديت، فلم تعد الجدات الآن تتذكر.
وسلم بعد ذلك المهندس محمد فاروق، شهادات تقدير للعاملين على الكتاب، وهم :”المهندسة ياسمين ماهر عن الإشراف العام، ناهد حسن عن الإشراف الفني، إيناس داوو عن المراجعة اللغوية، فيصل منير عن المراجعة اللغوية، منى صبري عن المراجعة اللغوية، د.سميح شعلان عن التحكيم العلمي تسلمها عنه مصطفى عبدالقادر، محي الدين صالح عن ترجمة النص، سلمى كمال عن الرسوم، عادل موسى عن الإعداد، و منى هنري، سمر ناصر عن الإدارة”.
وبدأ بعد ذلك توقيع الكتاب والذي قام به يوسف شعراوي، نيابة عن الراحل إبراهيم شعراوي، ومنها بدأ الحفل الغنائي للفنان وعازف العود محمد سليمان دواود، ثم ختمت فرقة “نجوم الوادي الجعفري”، الحفل بقيادة الفنان رضا الأمين، و عازف الأورج و عازف الساكس فون، و مدير الفرقة الفنان عدنان عبدالعزيز.
وقد أضفت الموسيقى روحًا للحفل، الذي كان مكتظًا بالحضور الجماهيري، مرحبين بتكرار هذه الاحتفاليات وهذه الكتب التي تعيدنا إلى تراثنا العريق.