في سماء الفن تظهر بين الحين والآخر أسماء لا تخبو بسرعة، بل يزداد وهجها يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، وهذه الأسماء هي بالفعل الكواكب الحقيقية التي تظل مشعة لسنين طويلة.
وتعتبر المطربة صباح في طليعة هذه الكواكب، ان لم نقل ألمعها على الاطلاق. فهي منذ ظهورها في سماء الفن تزداد وهجاً وضياء وتألقاً من هنا كان تسميتها أيضاً “شمس الشموس”.
لم اجد وانا من عشاق الفنانة الكبيرة صباح، شاعرة بالحزن على رحليها إلا عرض كتاب عن حياتها الفه الكاتب البنانى روبير أبو ديب والذى يحمل خفايا كثيرة لا يعرفها الكثيرون
“شمس الشموس” أحد الألقاب التي تحملها صباح، التي تملك دائماً أشياء كثيرة وجديدة، لأنها تجدد نفسها باستمرار، فمنذ 1943 وهي تتألق متربعة على عرش المجد والفن. انها أول من أدخل الأغنية اللبنانية الى القاهرة عاصمة الفن العربي، وباللهجة اللبنانية عبر الأغاني الخفيفة والقريبة الى القلب، وهذا ما لم يفعله الآخرون من قبل.
لذا استحقت الشحرورة لقب امبراطورة الأغنية اللبنانية، لأنها لم تكتف بما حققته في عالم الفن، اذ ان طموحاتها كبيرة وليس لها أية حدود، لذلك نجدها في هذا البلد أو ذاك تغني، وتزرع الفرح والمحبة في كل مكان.
الغناء عند الامبراطورة صباح لم يعد مسالة اطلالة واشراقة على جمهور كبير منتشر في لبنان والبلدان العربية والأوروبية، تطربه بصوتها الساحر الذي يتلاعب بأوتار القلوب. انها تحول على مدى الأعوام الى شيء، لا تعرف هي نفسها سره، امتزج بدمها، فصارت اذا تخلت عنه تشعر كأنها تخلت عن الروح. وتجدر الاشارة الى أن الامبراطورة صباح على مدى ستين سنة تعدبت وهي تشق طريقها الفني وحدها. أما نجاحها فقد تقاسمت ثماره مع كل من أحبها وشاطرها جهادها. كما أن اتصالاتها وعلاقاتها، التي أقامتها مع الناس، فقد حبكتها ووطدتها بمفردها أيضاً، وهي العصامية الكبيرة.
ان ايمانها بالله كبير، وتؤدي طقوسه على طريقتها. كما تؤمن، وبيقين مطلق، بأنها لن تعيش سوى مرة واحدة، لذلك تراها، رغم ما يعكر حياتها من هموم، فرحة لا سيما اذا قاسمها من هم حولها سعادتها وشهرتها ومكاسبها.
تدرك صباح جيداً أن الهموم مثل السوس تنخر كيان المرء. لذا هي تقاومها. تطرد طيور الحزن، والتعب، بسلاحها الخاص والمعروف: بابتسامتها.
وأخيراً، لا بد من الاشارة في نهاية هذه المقدمة الى سر شباب الامبراطورة الدائم لمعرفة كيف تحافظ على رشاقتها فتبدو بنت عشرين وهي التي عاشت زهر البساتين.
أسباب كثيرة تلخصها الامبراطورة بما يأتي:
1- تنام ملء جفونها لأنها مرتاحة الضمير دائماً، ولا تذكر أنها نامت مرة واحدة وهي ظالمة، لكنها تنام مراراً وهي مظلومة.
2- لا تدخن ولا تشرب الكحول محافظة على صحتها، لأن الصحة العامة تتدخل في حالة الارهاق بالقضاء على النضارة وبسرعة استهلاك الجمال.
3- تأكل قليلاً، فتتناول ما هو معذ ومفيد فقط، على طريقة “ما قل ودل”.
4- متفائلة حتى في أحرج المواقف وأخطرها.
5- روحها حلوة ومبسمها أحلى، لذلك تبدو ضاحكة في كل حياتها.
6- في حالة حب دائمة، والحب الكبير “ريجيم” طبيعي للانسان، وعندما تكون الامبراطورة في حالة حب تصبح في حالة نفسية هادئة ومريحة وينعكس ذلك على وجهها وصوتها وفنها بالطبع.
وبعد، فهذه لمحة موجزة عن أحد أعظم الأصوات في شرقنا العربي ان لم نقل أعظمها على الاطلاق، كما هي لمحة عن حياة احدى أجمل الفاتنات في عالمنا الفني الساحر ان لم نقل أجملهن فعلاً. انها صاحبة ألطف شخصية، وأعذب ابتسامة وأكبر قلب، انها امبراطورة فننا لهذه الحقبة الكبيرة من عمر فولكلورنا اللبناني المتشعب الأطراف.
نشأة صباح – ولادة صباح
في ليل العاشر من تشرين الثاني سنة 1927 أبصرت صباح (جانيت) النور في بدادون، وهي المولودة الثالثة في أسرة جرجي فغالي بعد جولييت ولمياء، لذلك لم تستطع الأم منيرة سمعان أن تقاوم دموعها عندما علمت أنها وضعت بنتاً، لأن الأسرة كانت تريد صبياً. لم يكن يوم مولد صباح يوماً سعيداً. لم تنطلق الزغاريد، ولم تقرع الطبول، بل سيطر الحزن العميق على البيت.
وقيل ان الأم امتنعت طوال يومين عن ارضاع الوليدة الجديدة، وكانت غير راغبة في النظر الى وجهها، ولو لا حكمة عمها الشاعر المعروف أسعد الفغالي (شحرور الوادي) لما اقتنعت بوجوب ارضاعها.
على كل ان مشكلة الأسرة بانتظار الصبي حلت بولادة شقيق صباح أنطوان.
صباح في المدرسة
الحقيقة كما قالت جانيت انها أخذت تشعر بحنان الأمومة في أروع صورة عندما بدأت تعي الحياة وتدرك الأمور ومعاني الأشياء. وراحت تتدرج على يد والدتها وتتشبع بعاداتها.
فالسيدة كانت خفيفة الظل، مرحة، تعشق الفن، حتى انها كانت تحضر الى المنزل أحد عازفي العود لكي يعزف أمام العائلة، ما جعل مواهب جانيت الفنية تتفتح، وتتجه صوب الغناء.
كانت الحياة في العائلة هادئة، فالأم تغدق عليها العطف والحنان بلا حساب، والوالد يهتم بزراعة قطعة الأرض التي يملكها في القرية، وبسيارته الفورد العمومية التي يعمل عليها السائق طنوس. غير أن هذا الهدوء هزه مقتل الابنة البكر جولييت في حادث اطلاق رصاص وقع في القرية، وكان سبباً لمغادرة صباح القرية الى بيروت والالتحاق بالمدرسة الرسمية أولاً ثم بمدرسة اليسوعية (الجيزويت) نزولاً عند رغبة عمها الشاعر شحرور الوادي.
لعب شحرور الوادي دوراً هاماً في هذه الفترة من حياة صباح، فهو الذي عودها قراءلشعر، لا سيما قراءة أشعاره وزجلياته التي كان ينظمها باللهجة اللبنانية. وقد لاحظ أنها كانت تبكي من شدة التأثر عندما تقرأ هذه الاشعار والزجليات، أو عندما تغنيها بطريقة مؤثرة، فتنبأ لها بمستقبل باهر في عالم الغناء.
أمنية صباح
ما زالت صباح تذكر ذلك اليوم الذي ذهبت فيه مع عائلتها الى بلدة جل الديب لزيارة احدى العائلات الصديقة. قالت لهم صاحبة البيت: “بالقرب من منزلنا كنيسة، كل من يدخلها للمرة الأولى ويطلب أمنية معينة تتحقق له”. بهر صباح كلام صاحبة البيت وشغلها جدا. و أصبح كل همها أن تختصر اجراءات الزيارة وتقاليدها لتذهب الى الكنيسة، لتطلب أمنيتها الأولى.
انتهزت صباح انشغال الجميع بتناول الطعام، فتسللت بهدوء وحذر شديدين دون أن يشعر بها أحد، ودخلت الكنيسة. بكت وهي تصلي طالبة تحقيق أمنيتها الوحيدة: أن تصبح مطربة ناجحة ومعروفة.
صباح تغني في المدرسة
العمل في الفن مهنة كانت الأسرة ترفضها، وتعتبر أن احتراف الغناء عيباً، خاصة أن جدها، كبير الأسرة، كان كاهناً هو الخوري لويس الفغالي، وخال أمها كان مطراناً هو المطران عقل.
لكن يبدو أن الظروف كانت تتحرك وتعمل لصالحها. فقد حدث أن قررت المدرسة تقديم مسرحية اسمها “الأميرة هند”، ورشحت الراهبة المسؤولة عنها صباح لأداء دور البطولة فيها، وكانت صباح في الرابعة عشرة من عمرها، تلميذة محبوبة، مقربة من الراهبات تغني لهن من حين الى آخر فيطربهن صوتها.
راحت الراهبة تخفق لها يومياً خمس بيضات وتقول لها: “اشربي، فهذا سيفيد صوتك ويجعله قوياً رائعاً”. طبعاً صدقتها صباح وراحت تشرب صفار البيض المخفوق، وتشتغل بالبروفات والتمارين. انها أول تجربة لها، أول مرة تواجه فيها الناس من فوق خشبة المسرح. ان الدور تمثيلي غنائي لا يتطلب فقط صوتاً جميلاً بل يتطلب أيضاً أداء تمثيلياً سليماً، ولم تكن لها خبرة سابقة في هذا المجال. وتذكرت دعاءها في الكنيسة وأمنيتها التي تأمل أن تتحقق.
ومما ضاعف من ثقتها بنفسها أن بعض الذين حضروا تمارين المسرحية وشاهدوها، وهي تستعد لأداء دور الأميرة هند، شجعوها ومن بينهم المرحوم عيسى النحاس ذلك الممثل المسرحي القديم الذي اعتزل التمثيل بسبب كبر سنه، ثم أصبح بعد ذلك يعتمد تأجير الملابس المسرحية مصدر رزق شريف يبقيه قريباً من العمل الذي أحبه. فعيسى النحاس أعجب بهذه الممثلة الناشئة، فأحضر لها ملابس الأميرة هند، وأطلق عليها لقب “الشحرورة” تيمناً باسم عمها شحرور الوادي. وما زالت صباح تذكره يوم عرض المسرحية عندما ذهب الى والدها بعد انتهاء العرض قائلاً له: “حرام عليك تجعلها تغني فقط على مسرح المدرسة، يجب أن تعمل وتغني في أماكن أخرى”.
طبعاً غضب الوالد غضباً شديداً. لقد تقبل فكرة اشتراك ابنته في الغناء في حفلة مدرسية تحت اشراف الراهبات، لكنه لن يسمح بتكرار ذلك في أماكن أخرى. وجاراه في الرأي جدها الخوري لويس، وخال أمها المطران عقل وبقية أفراد العائلة، غير أن الأم كانت الى جانب ابنتها. رغبت في تشجيعها، ولكن برعاية العائلة واشرافها.
والحقيقة أن تشجيع أمها، والاستحسان الذي لمسته من راهبات المدرسة، كانا دافعاً قوياً لها للسير نحو الهدف الكبير الذي تسعى الى تحقيقه ولو كلفها ذلك حياتها. لقد أصبحت مشغولة بالفن الى حد الجنون.
تغني في مقر نقابة الصحافة
جاءت أول فرصة للغناء خارج المدرسة وفي مكان محترم هو مقر نقابة الصحافة. حاولت أمها المستحيل لتقنع الوالد وبقية الرافضين في الأسرة بأن الغناء في مثل هذا المكان ليس عيباً، وقالت لهم ان جانيت عندما تغني في هذا المكان، فهي تغني أمام أصحاب الأقلام من الأدباء والكتاب الذين يقدرون الفن ويحترمون من يمارسه احتراماً كبيراً، ولن يكون في المكان سكارى، أو رعاع. وافق الوالد على أن تشترك ابنته في حفلة نقابة الصحافة التي أقامها نقيب الصحافة يومذاك روبير أبيلا.
لم تعرف جانيت كيف تسيطر على أعصابها ومشاعرها عندما وقفت أمام هذا الجمع الكبير من الصحفيين وأصحاب الأقلام. ومن شدة خوفها ضاع منها صوتها. انه ليس جمهوراً عادياً بل هو جمهور ناقد لا يرحم. ووجدت دموعها تسيل على وجهها، وهي واقفة على خشبة المسرح تحاول استعادة صوتها وثقتها بنفسها. في هذه اللحظة سمعت التصفيق. يبدو أنهم شعروا بحرجها البالغ، فأرادوا أن يشجعوها وينقذوها منه. وحينما شعرت بتعاطفهم معها وتشجيعهم لها، استعادت صوتها وبدأت تغني مواويل “بو الزلف، والعتابا والميجانا” مما نظمه عمها شحرور الوادي. وكان تقديم هذه المواويل صعباً بالنسبة الى فتاة صغيرة في مثل عمرها. وصفقوا لها مرة ومرات، وشعرت أنها نجحت في هذا الامتحان القاسي.
الرئيس رياض الصلح: أحسنت يا عروس
كان رئيس الوزارة يومذاك الزعيم الراحل رياض الصلح يشاهد المسرحية التي كانت تمثل على مسرح “التياترو الكبير” في بيروت، ويقوم بالأدوار فيها هواة ينتمون الى صفوة العائلات البيروتية، عندما طلب الجمهور من الصغيرة جانيت أن تصعد الى المسرح وتنشد موالاً فيه تحية لدولة رئيس الوزراء، وذلك في فترة الاستراحة القصيرة التي عقبت الفصل الأول.
في بادىء الأمر احمر وجه الفتاة حياء، وحاولت أن تتهرب، ولكن التصفيق أخذ يشتد، ولم يعد أمام جانيت مفر من الاستجابة، خصوصاً بعد أن قيل لها ولوالدتها أن دولة الرئيس يحب أن يسمعها.
عندئذ صعدت الى المسرح، ووقفت، ووقف خلفها عازف الناي سركيس باسيم، وراحت تغني مواويل شعبية، بدأتها بموال حيت فيه دولة الرئيس رياض الصلح، فصفق لها الجمهور بحرارة. وبينما كانت جانيت خارجة من كواليس المسرح مرت بالمقصورة التي يجلس فيها دولة الرئيس، فاستوقفها وطبع قبلة أبوية على خدها وقال لها: أحسنت يا عروس.
في تلك الليلة بهرت بما رأته، وبدأت اطلالتها على الحياة العامة من خلال الشخصية الأسطورية: رياض الصلح.
دور مدير اذاعة صوت أميركا
ذات يوم اتصل مدير اذاعة صوت أميركا كنعان الخطيب بوالد جانيت، وقال له ان صوت ابنته مبشر، خامة طيبة بحاجة الى من يرعاها بالتدريب والتوجيه. ان جانيت خلقت لتكون فنانة.
وكان واضحاً، كما قالت الشحرورة، اهتمامه بها وحرصه الدائم على توجيهها. وقد لعب دوراً فعالاً ومؤثراً في هذه الفترة من حياتها. شجعها على اجادة اللغة الانكليزية وعلى قراءة الشعر أيضاً. ويكفي أنه ساهم في اقناع أهلها بالتخلي عن تشددهم الزائد عن الحد. وكان من حسن حظها أنه سمعها مصادفة، وأحياناً يكون لمثل هذه المصادفات غير المتوقعة أثر بالغ في حياة الناس.
صباح أمام فريد الأطرش
كانت جانيت تفكر في الوصول الى ميكروفون الاذاعة. انه أسرع طريق وأضمن وسيلة للوصول الى الناس. لكنها كانت مصابة بعقدة نفسية من ميكروفون الاذاعة، اذ حدث أنه منذ حوالي السنتين، وكانت في الثانية عشرة من العمر، تقدمت لامتحان في الاذاعة اللبنانية، وقالت اللجنة، التي كان من أعضائها محيي الدين سلام والد المطربة نجاح سلام: لا تصلح، انها ما تزال صغيرة السن، ويمكنها أن تتقدم مرة أخرى للامتحان عندما تكبر.
وها هي قد كبرت، صارت في الرابعة عشرة، فوقفت مرة جديدة أمام لجنة الاستماع في الاذاعة ونجحت، لكن اللجنة كانت تود أن تسمع رأي ملحن كبير ومعروف يفهم ويميز طبيعة الأصوات ومزاياها وعيوبها، وكان هذا الملحن فريد الأطرش.
لم تنم تلك الليلة. كانت تشعر بنوع من الزهو الخفي؛ لأنها ذاهبة للقاء فنان كبير مثل فريد الأطرش. وأخيراً وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام الموسيقار الكبير. كادت تذوب خجلاً عندما صافحته، الآن سيتقرر مصيرها.
طلب فريد الأطرش أن يسمع صوتها. غنت وعيناها لا تفارقان وجهه الذي لم تظهر عليه أية علامات ارتياح. بعد أن انتهت من الغناء تطلع الجميع الى الموسيقار فريد الأطرش الذي أطرق قليلاً ثم قال: بصراحة انها لا تصلح أبداً. يجب أن تعود الى مدرستها وتواصل دراستها فهذا أفضل لها، لا، لا تصلح”.
انهارت آمال الشحرورة، لكنها أصرت على الاستمرار في الغناء وثقتها بنفسها كبيرة، وكذلك ايمانها بأنها ستصل رغم رأي فريد الأطرش.