ليس بالضرورة أن تلفظ أنفاسك وتغمض عينيك ويتوقف قلبك عن النبض ويتوقف جسدك عن الحركة كي يقال عنك: إنك فارقت الحياة
فمفاهيم الموت لدى الناس تختلف . . .
فهناك من يشعر بالموت حين يفقد انسانًا عزيزًا ويخيل اليه أن الحياة قد انتهت وأن ذلك العزيز حين رحل أغلق أبواب الحياة خلفه وأن دوره في الحياة بعده قد انتهى ..
وهناك من يشعر بالموت حين يحاصره الفشل من كل الجهات ويكبله احساسه بالإحباط عن التقدم فيخيل اليه أن صلاحيته في الحياة قد انتهت وأنه لم يعد فوق الأرض ما يستحق البقاء من أجله ..
كنت افكر في هذه الكلمات وانا جالس بعد يوم طويل من المشقه والتعب ، لقد مات أب جليل ..
فلم يعد المعنى الوحيد للموت هو الرحيل عن هذه الحياة فهناك من يمارس الموت بطرق مختلفة ويعيش كل تفاصيل وتضاريس الموت وهو مازال على قيد الحياة ..
حتى انهم صاغوه بانه ضيف بلا موعد ..
فمنذ خمسة أعوام قليلة استودعناه، ونثرنا عليه الرياحين والورود ، سكبنا العطور عليه .. على ذاك الذي اولى اهتمامًا كبيرًا لمدارس الاحد، حيث تدشين اذهان الاطفال ذهنًا ارثوذكسًا عميقًا .. من كان افصح من اوريجانوس .. من اقرن تعليمه بروح القديس كيرلس عمود الدين وفهم ورجاحة البار القديس اثناسيوس الرسولي .. ذهبي الفم الجديد ..
الهراطقة لا يجرأون على ذكر أسم صياد الهراطقه باسيليوس الجديد …انه معمدان جديد لم يخشى هيروديا .. البابا الذي تحدى جبروت السادات .. وحينئذ سمع كرسى مار مرقس زئير اثناسيوس الذي خرج من البرية فترة النفى منددا بقبول الاريوسيين … ولكن هذة المرة من البطريرك الامين منددا بقرارات المحاكم الارضيه متمسكًا بسلاح البر الكامل ..
انه الميرون والكرازه .. الشرح والتعليم .. الامانة والدفاع .. البساطة والجبروت .. الاسقف السكندرى القادم من عصر انطونيوس واثناسيوس ومقاره
لحيته بيضاء وكل شعره فيها تعبر عن فضيلة … عن دفء .. عن محبة فياضه .. عن خلوة ابدية ناصعة .. عن حياة صبر ..
من له ايمان ابراهيم وقياده موسى الكليم ووداعة ابنه يواقيم، ومن سبق في العبور الابدي لينال الجعالة الحسنة بعد حياة صبر القديسين، وبعد جهاد وعبادة حسنة ولم يكن العالم مستحقا له، فجاز سريعا وقصر الله عنه كي يستريح من الام هذا العالم، صائرا كطيف النسيم الذي يدخل من نافذة ويعبر من الاخري ..
القيت بنفسي على الاريكة، وامتد بي الخيال وانا لست بنائماً مفكرًا في هذه الكلمات ايضًا، وإذ بي اراه ويدور بيننا حوار ..
جريت نحوه وإذ بي اسبح في لحيته المنسدله على صدره الواسع الرحب المترفق الذي حمل داخله الكل ..
ولكنني لم انس ان اسأله : يا أبي قل لي كلمه منفعة .. بل أعظم كلمة :
فاجابني بعد برهة قليلة :
نهاية عمرنا يا ابني هي نقطة بدايتنا نحو الابد،
وبدون استعدادنا للرحيل لا يكون لحياتنا معني،
قلت له أريد أن أكون معكم !!
الموت يا أبني اقرب الينا مما نتصور وطوبي لمن يقطر زيته ليوجد ساهرا ومصباح سراجه غير منطفئ و ساعته حاضرة امامه، إذ ليس في القبر من يذكر ولا في الجحيم من يشكر …
عمرنا يا ابني كله أشبه بنفخه وإيامنا تحسب مثل ظل عابر ..
اشبه بشبر وعشب وظل .. انها مجرد حلم وبخار يظهر قليلا ثم يضمحل ،
انها نسمة الريح العابر تدخل من نافذة وتخرج من أخري . تنحصر بين شهقتي الولادة وخروج النفس من الجسد،
حياتنا تجري ايامها سريعة كالعداء، وقد تعين أجلاً فلا نتجاوزه ، مثل العشب أيامنا وكزهر الحقل تنحسر وتذبل ..
كالعنكبوت نسيجها وهي عابرة في خيمة تنقض، لا تثبت لها ثروة ولا تمتد لها مقتنيات ، فقبل يومها تتوفي وسعفها لا يخضر، لان صوت القائل ينادي ( كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل .يبس العشب وذبل الزهر لان نفحة الرب هبت عليه، اما كلمة الهنا فتثبت الي الابد )
فاجابني : مُت اولاً !
فاسرعت وقلت: موافق .. ولكن كيف ؟!!
للحديث بقية ..
اجابني: عن كل أمر ردئ لا يرضي الله .. مُت عن كل بغضه وكل تفرقه .. مُت عن الجسدانيات ..
!!إن كنت تائباً فأنت رحيماً لكل الناس ..
مُت عن كل كلمة بطالة سوف تعطي عنها حساب، وحينئذ ستتذوق بريق الابدية قبل ان تموت ..
الم يقل الاباء ان الموت في الجهاد خير من الحياه في السقوط ..
كن ميتاً بالحب من أجل نفسك ومن أجل الكل .. ولكن في مخدعك أولاً ..
تذكر يا ابني أنك لم تأت للأرض عبثاً …