تحت أسم ( المعمدانيات )
المقال الخامس( والأخير )
استشهاد يوحنا المعمدان
يقول الكاتب ” ثم لما صار مولد هيرودس , رقصت ابنة هيروديا في الوسط , فسرت هيرودس , ومن ثم وعد بقسم أنه مهما طلبت يعطيها ، فهي إذا كانت قد تلقنت من أمها وقالت : أعطني ها هنا علي طبق ” رأس يوحنا المعمدان ” – فأغتم الملك , ولكن لأجل الأقسام والمتكئين معه أمر أن تعطي فأرسل وقطع رأس يوحنا في السجن فأحضر رأسه علي طبق ودفع إلي الصبية فجاءت به إلي أمها ، فتقدم تلاميذه ورفعوا الجسد ودفنوه . ثم أتوا واخبروا يسوع ” ( مز 6 : 19 – 29 ) .
الاحتفال بعيد ميلاد للملوك من ضمن العادات التي كانت سائرة من قديم الزمان – وقد حدث ذلك أيام يوسف الصديق .
وكانت هذه الاحتفالات تتصف بالمجون والخلاعة فالولائم عاده ما تكون مملوءة بكل شيء مثير وشهي والضيوف عاده ما يكونوا علي مستوي رفيع جداً مثل قادة الجيوش والأمراء ووجهاء الدولة – ويذكر في سفر التكوين أيام فرعون الملك صنع وليمة بهذه المناسبة حيث يذكر الكتاب ” فحدث في اليوم الثالث : يوم ميلاد فرعون أنه صنع وليمة لجميع عبيده ورفع رأس رئيس السقاه ورأس رئيس الخبازين بين عبيده ( تك 40 : 25 ) وفي هذا الحفل – أي حفل هيرودس الملك . حيث رقصت ابنه هيروديا من زوجها الأول – فيلبس واسمها علي ما ذكره المؤرخ اليهودي ( يوسيفورس ) .
أن أسمها ” سالومي ” – وكان رقصها خليعاً وبلا حياء مما ترفض أن تشاهده النساء الشريفات ، حيث داست شرف صباها لكي تبهج هيرودس وتنال منه مرادها . فسُر هيرودس برقصها وبذل أقصي جهداً لإرضائها وكذلك إرضاء مدعويه .
وقال المؤرخ اليهودي ( يوسيفورس ) أن عمر سالومى وقتها لا يتعدي العشرين ربيعاً – وهي حفيدة هيرودس الكبير – وأصبحت فيما بعد أميره – بعدما صارت زوجه ( فيلبس ) ابن كليوباترا رئيس ربع ( أيطوريه ) – وهو عمها في نفس الوقت – ويذكر المؤرخ أيضاً أنهـا تزوجـت بابن عمها ( ارستوبولس ) الثاني ملك ( حلكيس ) وهـو بالطبع بخـلاف ( أرستوبولس ) جدها والد أمها ( هيروديا ) .
لقد رقصت سالومي رقصة خليعة أعجبت هيرودس الملك وفتن بها هو والجالسين معه ، ومن ثم فوعدها بقسم غليظ بأن يعطيها ولو نصف المملكة – أنه قمة الاستهتار والفوضى حيث يقدم ملك نصف مملكته لقاء ما قدمته من رقص ومجون – وهذا دليل علي طيش الملك وشدة غلبه شهوته عليه وتلذذه برقص سالومي – وهذا دليل علي أنه كان سكراناً ووقف الشيطان يطالب بحقه وبثمن الرقصة – وهي رأس يوحنا المعمدان .
وفي عيد ميلاده – قام هيرودس بقطع رأس يوحنا المعمدان – نعم يوحنا قد مات – ولكن لم يقدر أن يكتم أنفاسه وبقي صوته خالداً ينادي بالحق ، وطالبت هيروديا رأس يوحنا المعمدان – لكي تتأكد أنه قد مات فعلاً .
لقد حزن الملك بعدها – واظهر احترامه الشديد ليوحنا – وأن كانت هيروديا قد ظنت أنها تتخلص من صوت المعمدان بقتله فقد أخطأت لان لدمه صوتاً يشهد عليها كصوت هابيل الصديق ” صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض ” ( تك 4 : 10 ) .
أما قديسنا يوحنا المعمدان فقد أكمل عمله وأدي شهادته قولاً وعملاً للسيد المسيح وختم شهادته بدمه حيث أنه كان دوماً مستعداً للموت ولم يكن الموت بالنسبة له خسارة بل ربحاً لأنه أنتقل من سجن ( ماخيروس ) إلي قصر الملك العظيم السماوي .
ويقال أن يوحنا كان سجيناً في قصر هيرودس الكبير الذي بناه في مرتفع (ماخيروس) وتقدم الجلاد وقطع رأسه في السجن وقدمه للوليمة الماجنة .
” وتقدم تلاميذه ورفعوا الجسد ودفنوه ، ثم أتوا واخبروا يسوع ” ( مت 14 : 12 ) – ويقال أن تلاميذه دفنوا الجسد الطاهر بجوار قلعة ( ماخيروس ) – وكان الثمن الذي دفع لاغتصاب امرأة أخيه هو دم يوحنا المعمدان القديس – وقد دفع هيرودس الثمن بأن قام الملك ( كاليجولا ) بنفيه إلي ليون ثم إلي اسبانيا – وفي منفاه قد مات .
أما رأس يوحنا المعمدان فأخذتها هيروديا ودفنتها في مكان غير لائق بالقصر – بالقرب من قصر هيرودس .
وفي القرن الرابع الميلادي – وفي السامره موضع إكرام المؤمنين قد قام ” يوليانوس ” الجاحد بهدمه وبعثرة عظام القديس والشهيد يوحنا المعمدان – لكن بعض المسيحيين تمكنوا من إنقاذ كل ما أمكن إنقاذه من هذه العظام واتوا بها إلي أورشليم ودفعوه إلي رئيس أحد الأديرة واسمه ( فيلبس ) – الذي نقل الرفات إلي القديس أثناسيوس السكندري – وأستمر الحج إلي المدفن في سبسطيا لمده بضعة قرون .
وثمة تقليد وصل إلي السلافيين – يفيد أنه ( حنة ) أمراه ( خُوزي ) وكيل هيرودس التي كانت واحدة من حاملات الطيب ( لوقا 24 : 10 ) لم تكن تطق أن يكون رأس ( السابق الشهيد المجيد ) في هذا الموضع غير اللائق الذي كن فيه – وأخذته سراً إلي أورشليم إلي جبل الزيتون – حيث وجده رجل فيما بعد من النبلاء وقد صار راهباً , ثم انتقلت رأس القديس من شخص إلي آخر حتى وصلت إلي كاهن راهب أسمه ( أفسطاثيوس ) أتخذ لنفسه مغارة غير بعيدة عن مدينة حمص .. وحيث لم يمضي وقت طويل علي الراهب ( افسطاثيوس ) حتى ظهرت هرطقته وسيئاته – فطرد من ذلك الموضع أما رأس القديس يوحنا – فبقي غير معروف في المغارة إلي زمن لاحق – ثم عين بعدها راهب تقي أسمه (مركلوس) رئيساً للدير بالقرب من تلك المغارة وذلك في زمن الإمبراطور – (مرقيانوس) ( 450 – 457 م ) حيث ظهر القديس العظيم له عده مرات وأحبه وقدم له أناء من العسل , ثم بعد ذلك قاده إلي زاوية في المغارة , هناك بخر (مركلوس) – وباشر الحفر فظهر له رأس القديس يوحنا المعمدان تحت بلاطه من المرمر في جره .
بعد ذلك أخذها أسقف المحلة ونقلها إلي الكنيسة الأساسية في حمص فأضحي للمدينة برمتها نبع بركات وخيرات فياضة . هذا دام إلي زمان الإمبراطور ميخائيل الثالث ( 842 – 867 م ) وبطريرك القسطنطينية القديس اغناطيوس حيث تم نقله إلي العاصمة .
كما يقال أن الرأس المقدس موجود حالياً في المسجد الأموي بدمشق الذي كان كنيسة باسم القديس يوحنا المعمدان حيث قد أقام البيزنطيين المسيحيين كنيسة لهذا القديس في نفس المكان أواخر القرن الرابع الميلادي . بعدها أمر الخليفة الأموي ( الوليد بن عبد الملك ) بتحويل الكنيسة إلي جامع ( 86 ﻫ , 705 م ) وقد أقام ثلاث وآذن له وأزال معظم الآثار المسيحية فيه . ولكن مع ذلك بقيت مجموعة من الآثار التي تدل علي مسيحية كنيسة القديس يوحنا المعمدان , هذا بالإضافة إلي أنه لازال ضريح هذا القديس قائماً داخل المسجد والذي ليس هناك ما يدعو للقلق علي مصير رأس القديس يوحنا المعمدان لاعتقاد المسلمين بكرامة القديس يوحنا والذي يدعونه ( النبي يحي ) – حيث يوجد مقام له مقام عليه شبكية مذهبه يطلقون عليه (مقام النبي يحي) والذي توجد بداخله رأس القديس يوحنا المعمدان .
الصورة الطقسية للقديس يوحنا المعمدان وهو يقوم بتعميد رب المجد يسوع المسيح وهو نابع من فكر أرثوذكسي أصيل – كما توجد مردات وألحان خاصة به في أعياده وفي عيد الغطاس .
كما تحتفل الكنيسة بتذكار البشارة لمولدة في 26 توت ، وتذكار ميلاده في 30 بؤونه كما تحتفل الكنيسة بعيد استشهاده في 2 توت ، كما تحتفل الكنيسة بتذكار وجود رأسه في 30 أمشير , كما تحتفل أيضاً الكنيسة بظهور جسده مع اليشع النبي في 2 بؤونه – وفي سنكسار يوم 2 بؤونه يذكر أن الكنيسة تعيد بتذكار ظهور جسد القديسين ( يوحنا المعمدان واليشع النبي ) تلميذ إيليا النبي وذلك بمدينة الإسكندرية .
وعندما قصـد ( يوليانوس ) الكافـر أن يبني هيكل أورشليم بعـد أن هـدم بواسطـة ( سباسيانوس وأبنه تيطس ) قاصدين بسوء رأى أن يبطل قول الرب في الإنجيل ” أنه لا يترك ها هنا حجر علي حجر لا ينقض ” ( مت 34 : 3 ) .
أجتمع شيوخ اليهود في أورشليم وشبابهم وبدئوا يحفرون الأساس بهمة ونشاط وينقلون الأتربة والأحجار بعضهم بالمقاطف والبعض الأخر بأطراف أرديتهم – وكان القديس كيرلس أسقف أورشليم وقتها يهزأ بعملهم هذا .
ولكن عندما انتهوا من رفع الحجارة القديمة ، وهموا بوضع الأساس الجديد حدث زلزال عظيم ملأ الحفر تراباً وبددت أدوات البناء وقتلت بعض الفعلة ولم يرتدع اليهود بهذا وعاودوا العمل مره ثانية , حينئذ خرجت من باطن الأرض كرات نارية ورشقت الفعلة بالحجارة التي كانت معدة للبناء , فآمن الكثيرون بنبؤه السيد المسيح حيث أنه بأيديهم قد نقض بناء الهيكل من أساسه وقد أورد هذه القصة القديس يوحنا ذهبي الفم – كما ذكرها عرضاً المؤرخ اليهودي ” أميان ” في القرن الخامس الميلادي .
قال اليهود للملك – أن السبب في ما حدث هو وجود أجساد أئمة النصارى في هذا المكان – فقام برفعها عنه بأمر ( يوليانوس الكافر والملك ) – وأمر بإحراقها – إلا أن بعد أخراجهما – وبالتحديد ( جسدي القديسين يوحنا المعمدان واليشع النبي ) لكي يقوم بحرقهما – تقدم بعض المؤمنين من الجنود – وأعطوهم مبلغاً من الفضة وأخذوا الجسدين وأتوا بهما إلي القديس ( أثناسيوس بابا الإسكندرية ) فسُر بذلك ووضعهما في مكان خاص إلي أن يبني لهما كنيسة .
وقد حدث أنة في ذات يوم كان جالساً في البستان كل من القديس ( البابا أثناسيوس ) مع الكاتب الخاص به وهو ( البابا ثاؤفيلس فيما بعد ) علي كرسي الإسكندرية – حيث قال له بالحرف الواحد ” أن أطال الرب أجلي بنيت في هذا الموضع كنيسة علي اسم هذين القديسين وأضع أجسادهم فيها .
وعند ما جلس البابا ” ثاؤفيلس ” علي الكرسي البابوي تذكر كلام البابا أثناسيوس ، فبني الكنيسة ونقل إليها الجسدين الطاهرين وقد ظهرت منهما عجائب كثيرة .
وحالياً يوجدا في المقصورة الخاصة بهما في دير القديس العظيم أبو مقار ” القديس مكاريوس الكبير ” – هذه المقصورة تضم كلا الجسدين معاً ( القديس العظيم يوحنا المعمدان والقديس اليشع النبي تلميذ إيليا النبي ) – بركة صلاتهم تكون معنا أمين .
(1) القديس العظيم يوحنا المعمدان – دراسة تحليلية – إعداد أبيدياكون مهندس / ليشع حبيب يوسف