عبد الرحمن الكواكبى رائد من رواد الحرية فى الشرق العربى، وشهيد من شهدائها فى العصر الحديث، يصفه الدكتور عثمان أمين فى كتابه:
(رواد الوعى الانسانى فى الشرق الاسلامى) فيقول:
الكواكبى فى نظرنا مثال للخلق الأبى، والشخصية القوية، فهو شجاع مقدام، عزيز النفس صعب المراسي، لا يخشى فى الحق لومة لائم، رجل بسيط الطبع، لين المعشر، عون المستضفين، نصير للمظلومين، حتى لقبوه.. بأبى الضعفاء..
والكواكبى مصلح اجتماعى ومفكر سياسى ومجدد دينى، ساهم فى بناء القومية العربية، وشارك فى بعث اليقظة الاسلامية، وكان سلاحه النزاهة والاستقامة، والايمان بقيم العقل والروح..).
أما أستاذنا عباس محمود العقاد فيرى فى عبد الرحمن الكواكبى.. رائد من رواد الوعى القومى، وعبقرية من العبقريات الملهمة، التى التقى فيها سداد الفكر وشجاعة الضمير.
ولد عبد الرحمن الكواكبى فى حلب فى سورية عام 1848 من أسرة عريقة النسب والجاه، كان أبوه من أشراف حلب، يقوم بالتدريس فى الجامع الأموى وفى المدرسة الكواكبية، فتعلم الطفل فى هذه المدرسة، لكن طموحه دفعه بأن يتزود بعلوم وثقافات أخرى، فدرس العلوم الرياضية والطبيعية، وتعلم اللغتين الفارسية والتركية، واطلع على كتب التاريخ والقانون ونظام الحكم بوجه خاص، وهو عاشق للعلم والثقافة والاطلاع على أحوال الحياة والبلاد فزار الحجاز والهند وتركيا وأفريقية حتى استقر فى مصر، ومات فى القاهرة عام 1902، وشاع انه مات مسموما بفضل دعوته للحرية واستخدام العقل ،عمل الكواكبى محررا فى الصحف، وقاضيا شرعيا، ورئيس بلدية،ومشتغل بالنجارة،وكان نصيرا للحرية، خصيما للاستبداد، عدوا للطغيان، له رسالة تنويرية تقوم على مبادئ الأخلاص والضمير الانسانى اليقظ.
من اجل ذلك كتب كثيرا فى الصحف مقالات لنشر الوعى وايقاظ الضمير والايمان بحرية الانسان وكرامته، وقد تحولت هذه المقالات الى فصول فى كتابيه الشهيرين(طبائع الاستبداد)..و..(ام القرى).
ولأنه كاتب شجاع جرئ، لايهمه الا مصلحة الجماهير وحرية الإنسان التى كان يعتبرها روح الدين، تعرض الى هجوم الظالمين والمتسلقين، حتى انه قيل انه مات مسموما!.
يقول الكواكبى فى كتابه: طبائع الاستبداد:
(الموظفون فى عهد الاستبداد أو الوعظ والارشاد يكونون مطلقا- ولا اقول غالبا- من المنافقين الذين نالوا الوظيفة بالتملق، وما أبعد هؤلاء عن التأثير، لأن النصح الذى لا إخلاص فيه بذر عقيم لا ينبت، وان نبت كان رياء كأصله.).
يرى الكواكبى أن الدين ما يدين به الفرد لا ما يدين به الجمع، الدين يقين وعمل، لا علم وحفظ فى الاذهان.
وقد طرأت على الدين طوارئ غيرت نظامه، ذلك أن الخلف تركوا اشياء من احكامه. كإعداد القوة بالعلم والمال، والجهاد فى الدين، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واقامة الحدود، وإيتاء الذكاء، وزاد فيه المتأخرون بدعا وخرافات ليست منه، كشيوع عبادة القبور، والتسليم لمدعى الغيب.
ويدعو الكواكبى فى كتابه: طبائع الاستبداد الى تجديد النظر فى الدين بصدق واخلاص فيقول:
(وما احوج الشرقيين اجمعيين من بوذيين ومسلمين ومسيحيين وغيرهم، الى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء المرائين الاغنياء والرؤساء القساة الجهلاء، فيجددون النظر فى الدين، نظر من لا يحفل بغير الحق الصريح، نظر من لا يضيع النتائج بتشويش المقدمات، نظر من يقصد اظهار الحقيقة لا اظهار الفصاحة، نظر من يريد وجه ربه لا استمالة الناس اليه.
وبذلك يعيدون النواقص المعطلة فى الدين، ويهذبونه من الذوائد الباطلة مما يطرأ عادة على كل دين يتقادم عهده، فيحتاج لمجددين يرجعون به إلى اصله المبين البرئ من تمليك الارادة ورفع البلادة عن كل ما يشين..).
ويدعو عبد الرحمن الكواكبى اصحاب الطرق الصوفية إلى التخلص من التصوف الزائف بالانشغال بالدنيا، ابتغاء متعها الزائلة، وإرضاء الحكام واصحاب السلطان.
والتصوف الصحيح فى رأيه هو شعور بالمسئولية، وتهذيب النفس، وسيطرة على اهوائها وغلبه على قوى الشر، وصفاء روحى يضئ جوانب الحياة. اما عن الحرية فيقول:
الحرية افضل من الحياة نفسها واكرم، وان الشرف اعز من المنصب والمال والعلم هو المرشد الى الحقوق والواجبات والهادى الى السبيل الصحيح لنليها وصونها، وهو الذى ينبه الى الظلم وكيف يرفع، ويشير الى الكرامة البشرية وقيمتها. ولذلك رأينا الطغاة ودعاة الاستبداد حريصين على ان يظل جمهور الناس فى جهل وعماية، لانهم ان تعلموا صعب على الحاكم حكمهم.!
فالمستبد يود ان تكون رعيته كالغنم دراً وطاعة، وكالكلاب تذللا وتملقاً. والمستبد يسره غفلة الشعب، لأن هذه الغفلة سبيله لبسط سلطانه عليهم.. يذلهم، ويبتز أموالهم، فيحمدون له ابقاءه على حياتهم. ويسعى للوقيعة بينهم، فيصفونه باللباقة وحسن التدبير..
والمستبد خواف رعديد: يخاف من افراد رعيته، اكثر مما يخافون منه لانه يخاف منهم عن وهم، وهم يخافون منه عن وهم وجهل، وكلما زاد المستبد عسفاً وجوراً زاد خوفه من رعيته ومن حاشيته، بل من هواجسه ووساوسه، وخوفه الحقيقى على فقد سلطانه وحياته، لا يخفى على المستبد مهما كان غبيا انه لااساد الا ما دامت الرعية حمقاء تخبط فى ظلام الجهل.
يحدثنا الكواكبى عن اثر الاستبداد فى هدم القيم الروحية وقلب المعايير الاخلاقية، فمن اثاره فى الناس ان يقضى على عاطفة الحب بينهم، لان الانسان فى ظل الاستبداد لا يحب قومه، لانهم عون الاستبداد عليه، ولا يحب وطنه، لانه يشقى فيه.
وهو لا ينعم بلذة الكرامة والمروءة والشمم، فلا يذوق الا اللذة البهيمية، لذة الطعام والشراب واللباس، لانه لا يعرف لذة سواها.. والاستبداد يقلب موازين الاخلاق، فيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل: يسمى النصح فضولا، والشهامة تجبراً، والانسانية حمقاً والرحمة مرضاً كما يسمس النفاق سياسة والتحايل كياسة والنذالة ظرفا .
هكذا يؤثر الاستبداد على الناس، ويرغم حتى الأخبار منهم على الفة الرياء والنفاق، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح،لان اكثر اعمال الاشرار تبقى مستورة يلقى عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة على ذى شر، ولهذا اشاعت بين الناس امثال غريبة مثل: اذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب!.
المجد فى نظر الكواكبى هو احراز المرء مقام حب القلوب واحترامها، وللمجد لذة روحية تقارب لذة العبادة عند المؤمنين، وتعادل لذة العلم عند الحكماء.. اما التمجد فهو القربى من المستبد بالفعل، وهو ان ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد، ليحرق بها شرف المساواة فى الانسانية، وبعبارة اوضح فان التمجد هو ان يصير الانسان مستبدا صغيرا فى كنف المستبد الاعظم.
والاشخاص المتمجدون ذوو الضمائر الخربة، يتخذهم المستبد سماسرة لتعزيز الأمة بإسم خدمة الدين او حب الوطن، او توسيع المملكة، او تحصيل منافع عامة، والحقيقة ان هذه الدعاوى ماهى الا تخيل وايهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الامة وتضليلها.
يشرح لنا المفكر والمصلح الكبير عبد الرحمن الكواكبى فى كتابه المهم(طبائع الاستبداد) اصعب مرات الاستبداد فيقول:
(أشد مراتب الاستبداد التى يتعوذ بها من الشيطان هى حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش ، الحائز على سلطة دينية، ولنا أن نقول انه كلما قل وصف من هذه الاوصاف قل الاستبداد، الى ان ينتهى بالحاكم المنتخب الموقت المسئول فعلا.).
يشير الكواكبى بذلك الى اهمية مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، واثر ذلك فى الحد من سلطة الحاكم المطلق.
وكتابات الكواكبى تدعو فى مجملها إلى مذهب اخلاقى واضح، فالاخلاق عنده ترتكز على الوعى الانسانى، وعى الحرية والكرامة،والاخلاق لا تكون اخلاقا على الاصالة مالم تكن مطردة، نابعة من قانون فطرى، يسمى( الناموس) تقتضيه كرامة الانسان وواجبه نحو نفسه ونحو عائلته ونحو وطنه ونحو الانسانية بأسرها.
ومعنى ذلك ان الاخلاقية الصحيحة يجب ان تقوم على مبادئ ملزمة امرة ناهية،ملزمة لانها نابعة من الضمير الحى، صادرة من الارادة الحرة، ومن اين لاسير الاستبداد ان يكون صاحب ناموس، وهو كالحيوان المملوك العنان، يقاد حيث يراد له، ويعيش كالريش فى مهب الريح ولا نظام ولا إرادة له، والارادة هى ام الاخلاق.
قوام النهضة عند الكواكبى أمران اسياسيان:
الدين والعلم، الدين العامل، والعلم الواعى، بالنسبة للدين يرى الكواكبى اهمية الدين الحى النافذ، لا الدين الجامد المحفوظ فى رواسم وصبغ، انما الدين فلسفة حياة، يفيد فى الترقى ونهضة الامم.. اما العلم الواعى فهو العلم الذى يصنع للأمم دواؤها ووسائل تقدمها.
من كلمات الكواكبى المأثورة: لورأى الظالم على جانب المظلوم سيفا لما اقدم على الظلم..