بعيدا عن العواطف والمفردات، التي تدمي العين والقلب، على ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، فإن المتابعة والتحليل يكشفان أن هذا التنظيم ينفذ خطة محكمة، وبالتنسيق مع قوى دولية وإقليمية، وإلا كان ضربه من قبل القوات الجوية بالجيش العراقي أو الإيراني أمر سهل المنال. خاصة وأنهم لا يتبعون حرب العصابات أو الخنادق والأنفاق تحت الأرض، مثلما تفعل حماس المحسوبة على التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، بقوى ومؤامرات عالمية ضد الدول العربية.
جريمة إنسانية، بالفعل هو التوصيف الدقيق والدولي لممارسات داعش في العراق، وتحديدا الموصل، بعد عمليات التهجير القصري للمسيحيين في العراق. وكانت البداية فرض الجزية، ومنع السيدات المسيحيات من العمل في الأجهزة الحكومية بالعراق، وتحديدا المناطق المسيطرة عليها من قبل داعش، ثم الاعتداء على الكنائس والأديرة، وتوقيف رجال الدين المسيحي من كهنة ورهبان وراهبات كرهائن. وأخيرا كانت الطاقة الكبري، لتنفيذ مخطط، سواء كان إقليمي أو دولي أو حتى لو كان محلي، لتفريع دول الشام والهلال الخصيب من المسيحيين.
البداية كانت من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي وتفريغ بيت لحم والناصرة وغيرهما من المسيحيين في فلسطين. بعدها بدأت كرة الثلج في التدرج والكبر، تم استهداف المسيحيين في سورية والعراق، وقبلهما لبنان.
وتأكدت المؤامرة، عندما تولي تنظيم الإخوان المسلمين في مصر الحكم، عقب ثورة 25 يناير، التي قام بها الشعب المصري ولكن سرقتها تيارات الإسلام السياسي مدعومة من واشنطن. وتم التضييق على أقباط مصر، بصورة لم يكن لها مثيل، فعادت حركات وأمواج الهجرة القبطية إلى المهجر من جديد. واعتدى أنصار الإخوان وتيارات الإسلام السياسي المتحالفة معهم على الكنائس والمسيحيين ورجال الدين المسيحي، ولأول مرة في التاريخ المصري في مصر يتم الاعتداء على الكاتدرائية المرقسية الأم في العباسية، لدرجة وصلت اعتلاء أسقف بعض بناياتها، في حادثة لم يكن لها بعدها مثيل في التاريخ المصري.
بررت كل هذه الأحداث مشاركة المسيحيين كمواطنين مصريين في ثورة 30 يونيه ضد الحكم الثيوقراطي لتنظيم الإخوان –الإرهابي، بحكم القضاء المصري- في مصر وغزة واليمن وسورية وليبيا.
ويأتي هذا في الوقت، الذي أعلن فيه تنظيم دولة الخلافة الإسلامية بمصر، التابع لتنظيم داعش، مسؤوليته عن تنفيذ مذبحة الفرافرة بمحافظة الوادي الجديد غرب مصر، والتي استشهد فيها 22 جنديا من قوات حرس الحدود المصري. وكان تنظيم الدول الإسلامية بمصر، قد أعلن مبايعته لأبي بكر البغدادي خليفة المسلمين، على حسابهم علي تويتر. ولم يختلف الحال بالنسبة لتنظيم أنصار بيت المقدس المحسوب على الإخوان المسلمين، والذي يوسع من عمليات الإرهابية في ليبيا وسورية والعراق.
وتاريخيا، يتناسى الكثيرون، أن المسيحيين، كمواطنين عرب، لن نقول أنهم أكثر ولاءً وإنتماء، ولكنهم طوال تاريخهم، في فكرهم وسلوكياتهم ينتمون ويعشقون هذه المنطقة العربية. هل ننسى القومية العربية البستاني؟ وكيف لعبت دورا محوريا في مواجهة عنفوان الباب العالي العثماني، الذي بذل كل المحاولات لوأد الهوية والثقافة العربية. لم يختلف حال المسيحيين في العراق، حيث رفضوا الدمار والخراب الذي جلبه الأميركان لبلاد الرخاء دجلة والفرات. ولم يختلف حال المسيحيين في سورية، بعد أن تأكدت مؤامرة مشاركة جنيسات أكثر من 85 دولة في ميليشيات مسلحة من كل صوب وحدب، تقوم بما يسمي بثورة في سورية، وتنقل رحاياها وتداعياتها إلى سويسرا الشرق الأوسط لبنان، هذه الدولة الحساسة لأى تداعيات إقليمية، نظرا لتركيبتها الموزاييك.
فشلت القوى الإمبريالية في استخدام مخلب قط للتدخل الدولي وتقسيم الدول العربية، وخاصة في الدول التي يتواجد فيها المسيحيون. بل وكشفت الممارسات، التي تقوم بها تنظيمات متجانسة في الفكر السلفي والإسلام السياسي المتشدد، مثل داعش، وحماس، والإخوان المسلمين، وأجناد مصر، وأنصار بيت المقدس، أنها كلها مسميات لفكر واحد، سلفي جهادي، تتلون صوره، لخداع المواطن العربي البسيط، المتعاطف معهم، بدعوى دفاعهم عن الدين الإسلامي، والدين الإسلامي براء منهم، ومن سلوكياتهم الإرهابية، والتي تدرج تحت مظلة جرائم ضد الإنسانية.
وتعتبر داعش، صورة من صور الفكر الجهادي، للإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة. وداعش تنظيم مسلح يوصف بالإرهاب يتبنى الفكر السلفي الجهادي يهدف أعضاؤه إلى إعادة “الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة”، يمتد في العراق وسوريا. داعش تنظيم حديث النشأة، تأسس في أبريل 2013. وكان عبارة عن إندماج بين أنصار دولة العراق الإسلامية التابع لتنظيم القاعدة، التي تشكلت في أكتوبر 2006، وعناصر من المجموعات الإسلامية المسلحة في سورية، والمعروفة باسم “جبهة النصرة”. وسرعان ما ظهرت خلافات، المناصب القيادية، وتقسيم الغنائم، ورغم الاتساق والتوحد الفكري بينهما، رفضت جبهة النصرة الإندماج، وتقاتل التنظيمان منذ يناير 2014. وبدأت داعش ممارساتها تحت مسمي “جماعة التوحيد والجهاد” بزعامة أبي مصعب الزرقاوي عام 2004، قبل أن يدور هذه الأخير في فلك أسامة بن لادن. وبعدها بفترة أعلنت الجماعة تأسيس دولة العراق الإسلامية بزعامة أبي عمر البغدادي، ثم تولى الخلافة بعده أبا بكر البغدادي. وتم تقسيم الغنائم، حتى تفرغ داعش من السيطرة على كامل العراق، بحيث تترك سوريا وقتيا لجبهة النصرة!!
حالة من الصمت غير المبرر وغير المنطقي، تغرق فيها مؤسسات المجتمع المدني في الدول العربية عامة، والدول العربية التي يتواجد فيها المسيحيون المعرضون لشتى أنواع التمييز والإضطهاد. فعندما يحدث أى ضرر لشخص واحد من المحسوبين على هذه التيارات الإسلامية المتشددة، نجد العديد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية المحسوبة على الغرب، تصدر التقارير لتدين وتشجب وتطالب بتحسين الظروف.
والسؤال، ماذا كانت ستفعل منظمات المجتمع المدني العربية والغربية، لو كان هذا التهجير يعاني منه يعاني منه
أما بالنسبة لما تقوم به داعش في العراق وسورية، وغيرهم من المسيحيين في دول المنطقة، فألسنة هذه المنظمات لا تتحرك، وتقاريرها ينضب حبر الطابعات لتصدره. والتبرير واضح أن التمويلات الخارجية، التي يأتي أغلبها من قلب واشنطن، يهتم بجماعات الإسلام السياسي، أكثر من غيرهم، في مخطط لنقل انشغال الإسلاميين بالدفاع عما يؤمنون به، داخل دولهم، وليس للخارج. وهذه السياسة الأميركية منذ الحرب العالمية لم تتغير، فإستيراتيجية أميركا خوض الحروب أيا كانت، خارج أراضيها، وتأكد هذا بعد هزيمة وذل بيرل هربر في بداية الأربعينيات من القرن الماضي.
ولا يختلف حال التمويلات الأوروبية، التي تدور تقريبا في فلك السياسية الأميركية، تحت دعاوى الديمقراطية، والليبرالية، وهي منهم براء. وتأكدت تحالفات واشنطن مع تنظيم الإخوان –الإرهابي بحكم قضائي- لما يتمتع به من امتدادات أخطبوطية في أكثر من 84 دولة.
ورغم تنديد البابا فرنسيس بابا الفاتيكان بممارسات داعش، واعتبار الخارجية الفرنسية تهجير المسيحيين جريمة ضد الإنسانية، إلا أن التقاعس الغربي عن مواجهة داعش، يجعل من المحتمل أن تصل عناصر من داعش إلى قلب المجتمعات الغربية، وتهديدها مستقبلا، حسب تصريحات مسعود برزاني حاكم إقليم كردستان العراق.
هذا الصمت الغربي، يصاحبه صمت عربي وخليجي، يتوازى مع هوى قطاعات من الرأ العام العربي، ذو الميول الإسلامية. ورغم الاتهامات المباشرة الموجهة لكل من السعودية وقطر وتركيا بتمويل داعش ودعمها، لدعم الإسلام السني. فإن إيران هى الأخرى تحوم حولها الاتهامات، لتكون سبب من أسباب عدم الاستقرار في العراق وسوريا، وهو ما يعد مبررا قويا لاستمرار تدخل إيران في المنطقة، مثلما تفعل مع حماس الإخوانية السنية، لتكون أشبه بالورقة الملفوفة بين أصابع النظام المصري على الحدود، تستطيع إشعالها وقتما تشاء.
إن التمويل الخليجي، وتحديدا السعودي والقطري والتركي لداعش، يتم بمباركة شعبية وربما رسمية. وإن كانت السعودية مؤخرا نظرا لخطر هذه الجماعة اتخذت قرار بالسجن 10 سنوات لكل من ينتمي إليها أو يمولها. وقطر وتركيا، وهما يتحركان على محور مغاير للسعودية في المنطقة، وخاصة سورية، حيث ترى الدوحة وأنقرة أن داعش ورقة مهمة لتوجيه تطورات الأحداث في سورية بما يحقق مصالح الولايات المتحدة، باعتبارهما الوكيليين الحصريين لواشنطن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع تيارات وتنظيمات الإسلام السياسي، التي دعمت واشنطن ثورات الربيع العربي، من أجلها، وساعدتهم علي سرقتها من القوى الثورية الوطنية، إلا أن بعض الدول نجحت في تصحيح المسار، ومنها مصر باستجابة من الجيش الوطني لنداءات ومطالب الملايين الذي نزلت في 30 يونيو 2013 ضد الدولة الثيوقراطية وتنظيمات الإسلام السياسي بزعامة الإخوان.
المثير في الأمر أن استطلاعات الراي في المملكة العربية السعودية تكشف أن أكثر من 92% يرون في داعش تعبير متوافق عن القيم والشريعة الإسلامية. وهنا يقول الباحث الشرعي بداح الدوسري أن هذه الاستطلاعات، التي تجرى على شبكات التواصل الاجتماعي تكشف عن الفهم الخاطئ للإسلام وتعاليمه، لدى شريحة من السعوديين، وخصوصا من يتعلق بأحكام الجهاد والقتال، حسب تصريحاته في جريدة الحياة اللندنية. بل والأدهي من ذلك أن ممارسات داعش فيما يتعلق بنحر رقاب المخالفين والمختلفين معها، اصبحت من التقاليع والألعاب التي تجدى صدى واسعا دى قطاعات عريضة من الأطفال في السعودية وقطر.
والتساؤل لماذا لا توجه داعش ممارساتها الدموية لنصرة المسلمين السنة في غزة في مواجهة إسرائيل، بدلا من قتل المسلمين الشيعة أو المسيحيين في العراق وسوريا؟ تساؤلات عديدة، لا تجد إجابات منطقية، غيرها أنها تنظيم تموله وتوجه سياسات دول، تلعب دول الوكيل المباشر لواشنطن وغير المباشر لتل أبيب، وهما تحديدا قطر وتركيا، أهم حليفين حاليا لأميركا وإسرائيل في المنطقة.
يتساءل العديدون عن مصادر تمويل داعش. هناك تدفقات مالية لا يستطيع أحد أن يثبتها تأتي عبر دول وأجهزة مخابرات ذات مصلحة، مثلما كانت تفعل قطر مع الإخوان في مصر. لكن التقارير الإعلامية والتحليلات السياسية والخاصة بالجماعات والتنظيمية الإرهابية توضح أن داعش تتحكم في تمويلات تدور حول 3 مليارات دولار سنويا، وهي أكبر من ميزانية كل التنظميات المرتزقة والمحسوبة على الإسلام السياسي، بما فيها أخطبوط الإخوان المسلمين وطالبان وتنظيم القاعدة “التنظيم الأم لداعش”. وتتراوح مصادر تمويلهم ما بين الابتزار، حيث قاموا بسرقة البنك المركزي العراقي في الموصل، لمبلغ يتجاوز 420 مليون دولار. ويعتبر مصدر تمويلات داعش من القضايا الشائكة والمعقدة والمتشابكة.
ويكشف تشارلز ليستر الباحث بمركز بوكينجز بقطر أنه لا يمكن حصر تمويلات داعش، لأنه لا يوجد لها حساب بنكي صريح. ويقول جونتر ماير مدير مركز أبحاث العالم العربي في جامعة ماينز الألمانية أن مصادر تمويل داعش تأتي تحديدا من دول الخليج وخاصة السعودية وقطر والكويت، لدعم مقاتلي داعش ضد نظام بشار الأسد. ويشدد ماير على أن الجزء الأعظم من التمويل لا يأتي من الحكومات، ولكن من شخصيات ثرية في هذه الدول، تمتلك قدرات مالية ضخمة.
وتعتبر عمليات سرقة النفط والغاز الطبيعي المصدر الثاني الرئيسي للتدفقات المالية لداعش، حيث تقوم ببيعها لبعض دول الجوار ومنها تركيا، كما حدث في السطو على النفط السوري والعراقي حسب تقارير جريدة ديلي ميل البريطانية. وتهتم داعش في هذه المرحلة بتأسيس شركات متخصصة تابعة لها في هذا المجال لضمان وصول تدفقات مالية مستقرة في هذا المجال. يضاف إلى هذا فرض الإتاوات والغرامات على شركات النفط والشركات الكبري العاملة خاصة في العراق وبعض الشئ سورية، لتركها لتمارسها أنشطتها دون تضييق من مقاتلي داعش.
هذا وتؤكد لوري بلوتكين بوجارت بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدني أن هناك تساؤلات حول التمويل السعودي لداعش، ورغم عدم وجود أدلة حول التمويل السعودي، لكن لا شك أن الزحف السني لتنظيم داعش ضد الحكومة في الشيعية بالعراق يلق هواه لدى السعوديين. ورغم هذا جرمت الحكومة السعودية على المستوى الرسمي تمويل داعش أو الانضمام إليها. ولكن هذا ربما لا يمنع التبرعات والمساهمات السعودية على المستوى الفردي لداعش. وعادة ما تمر التبرعات السعودية بالطريق الكويتي قبل الوصول إلى داعش.
كما تكشف شبكة سي إن إن أن مراسل ديلي بيست جوش روجين لشبكة سي إن إن: إن حركة داعش تتلقى تمويل ودعم من عشرات السنوات من قبل الملمنظمات الخيرية والأثرية في السعودية وقطر والكويت، وهذه دول حليفة لواشنطن، تعد من أهم الجهات الممولة لداعش.
هذا وتجمع مجلة فورين بوليسي الأميركية وجريدة الجارديان البريطانية على أن داعش تستطيع تأمين إيرادات شهرية بدأت بنحو 8 ملايين دولار، وصلت الآن إلى حوالي 140 مليونا شهريا. كما أشارت جريدة وورلد تريبيون الأميركية إلى سيطرة داعش على على أكثر من 60% من إنتاج النفط السوري، حيث إنها تحصل على ما يقرب من 100 ألف برميل يوميا في محافظات دير الزور والرقة.
يضاف إلى هذه المصادر فرض الجزية على المسيحيين، والحصول على ملايين الدولارات جراء أخذ الأبرياء كرهائين، فضلا عن بيع الكهرباء في المدن التي يسيطرون عليها، والسيطرة على الأسلحة المتقدمة الأميركية في المدن العراقية التي تسيطر عليها، فضلا عن الأسلحة الروسية في المدن السورية التي تغزوها.
إن مكافحة الإرهاب، والجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية، باسم الدين، يتطلب تطوير الخطاب الديني، ومفرداته، لأن الأديان أنزلت من أجل خير الإنسان، وليس قتله وتهجيره. مع التأكيد على أهم فصل السياسة عن الدين، وهذا أمر صعب المنال، ويعتبر من سمات المدينة الفاضلة غير الواقعية، وهنا تبرز أهمية توعية الجماهير والمواطنين، بأهمية التعايش وقبول الآخر، ايا كانت الاختلافات العرقية والدينية واللغوية وغيرها. ولذا من المهم أن يقوم مثلث الحكومات والمجتمع المدني ووسائل الإعلام بدور توعوي أكبر لزيادة مساحة الوسطية وقبول الآخر، حتى يستطيع الجميع التعايش بعيدا عن نتائج المباريات الصفرية النتيجة في السياسة، والتي انتصار فريق، يعني بالضرورة هزيمة والتخلص من الفريق أو الفرق الأخرى. فنحن في حاجة لبث ثقافة تحض على أن الارض تسع الجميع، وهناك قواسم مشتركة يمكن بللورتها، وتأكيدها بين مختلف المجموعات، كما هو الحال في نموذج مثل النموذج السويسري، العميق التعدد والتنوع، كمصدر للثراء، وليس الصراعات.