الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) باب مهم لفهم تركيبة الثقافة القومية لأى شعب. فى هذا الباب التأكيد القاطع على أنّ الشعوب التى تعدّدتْ أعيادها ، هى شعوب محبة للحياة ، وهذا الحب للحياة كان أحد ركائز تأسيس نهضة تنموية. والأمثلة على ذلك كثيرة ، فالشعوب فى العصور القديمة (مصر، اليونان ، الصين ، الهند) تعدّدتْ أعيادها وفى ذات الوقت شيّدتْ نهضة تنموية.
حول هذا الموضوع صدر كتاب (الأعياد المصرية : احتفالات مصرية للحاضر والمستقبل) للباحث الجاد أ. سامى حرك عام 2012على نفقته الخاصة. فى هذا الكتاب الذى استغرق تأليفه عدة سنوات رصد مؤلفه عدد 79عيدًا تشمل 169ليلة فى مصر القديمة. من بين هذه الأعياد عيد رأس السنة المصرية (1توت الموافق 11سبتمر) ولهذا العيد أهمية خاصة. فإذا كان التقويم العالمى هو التقويم الميلادى ، فإنّ هذا التقويم مستمد من التقويم الجريجورى المستمد من التقويم الرومانى المستمد من التقويم الشمسى المصرى ، ومعنى ذلك أنّ العالم المُتحضر يُدين لجدودنا المصريين القدماء بتنظيم تقسيم السنة إلى شهور وأيام وساعات بل ودقائق إلخ كما أنّ التقويم العالمى هو المُعترف به فى التعاملات الدولية. وإذن فإنّ إحياء هذا العيد هو إحياء للشخصية القومية التى أبدعتْ هذا التقويم الذى بدأ عام 4242ق. م وبذلك فإنّ السنة المصرية الحالية : 4242+ 2013 = 6255. كما أنّ إحياء هذا العيد يُعيد لذاكرة الأجيال الحالية أنّ ثقافتنا القومية ثقافة زراعية ، وأنه بفضل الزراعة توصل جدودنا لهذا التقويم العلمى المعجز الدقيق قبل اختراع المراصد الضخمة التى ساعدتْ علم الفلك فى رصد حركة الكواكب والنجوم . وذكر المؤلف أنّ الكثير من المؤلفات فى العلوم الطبيعية ، مثل كتاب (تاريخ العلم) للعالم ج. ج.كراوثر- ترجمة يمنى الخولى ، وكتاب (مولد الزمان) للعالم جون جرين ترجمة مصطفى فهمى وكذلك الموسوعة الفلكية الألمانية وغيرها ، فى كل هذه المؤلفات العلمية تأكيد على أنّ الوسيلة الوحيدة لاكتشاف دورة كاملة لأى نجم من النجوم ، قبل الصعود للقمر، لا تتوفر للإنسان إلاّ بالمراصد الضخمة (ص37) فكيف توصل جدودنا لرصد حركة النجوم والتوصل إلى أول تقويم علمى بدون أجهزة رصد مثل مرصد هابل ؟ سؤال تتجاهله الثقافة السائدة ، ولعلّ الاحتفال بعيد رأس السنة المصرية أنْ يكون بداية لفتح الكثير من الملفات عن الحضارة المصرية المظلومة من الغالبية العظمى من أحفاد الجدود الذى أبدعوا هذه الحضارة.
ربما لا يعرف الكثير من المصريين أنّ جدودنا كانوا يحتفلون يوم 30طوبة كل عام بعيد سيشات (سيدة الكتابة) مساعدة (تحوت) وزوجته. وأنّ هذا العيد ورد ضمن قوائم أعياد الملك تحتمس الثالث فى معبد الربة (موت) بالكرنك حسب ترجمة عالم المصريات الألمانى (شوت سيجفريد) ونظرًا لدور مصر القديمة فى اكتشاف ورق البردى ، ثم التوصل لأول أبجدية فى العالم القديم ، وكان من الطبيعى أنْ يكون من بين احتفالات جدودنا ب (توت) رب الحكمة والكتابة ، ولهذا كان أحمد لطفى السيد من الذكاء والوعى القومى عندما جعل من صورة تحوت (جحوتى) شعارًا لجامعة القاهرة. كذلك فإنّ مساعدته (سيشات) لا تقل شهرة عنه فى علم المصريات ، بصفتها (حافظة السجلات) ورمزًا من رموز(المرأة الكاتبة) لذلك يقترح المؤلف أنْ يكون الاحتفال بعيد (سيدة الكتابة) بداية للتفكير فى أنْ تكون (سيشات) الشعار أو (اللوجو) لهيئة الكتاب المصرية، وبمراعاة أنْ يظل ثابتـًا لا يتغير. كما اقترح إنشاء جائزة دولية باسم (سيشات) فى مجالات الأدب والفنون (من 113- 118)
يأتى المتحضرون إلى مصر كل عام مرة يوم 22فبراير، والثانية يوم 22أكتوبر لمشاهدة تلك الظاهرة الفلكية المُعجزة : أى تعامد الشمس على وجه الملك رمسيس الثانى . فلماذا لا يحتفل شعبنا بهذيْن اليوميْن ؟ خاصة وأنّ منظمة اليونسكو تـُشارك فى الاحتفال مع الوفود الأجنبية ؟ لماذا لا يتم استثمار هذيْن اليوميْن محليًا وإقليميًا ودوليًا ؟ أليس هذا الاستثمار تشجيع للسياحة من جانب، ولنشر أهمية علم الفلك الذى أبدعه جدودنا المصريون القدماء؟ خاصة وأنّ عناصر الطبيعة والمناخ لصالحنا حيث الشمس الساطعة والجو الدافىء وزيارة باقى الآثار الموجودة فى موقع الاحتفال (من 119- 121)
ينقلنا المؤلف من الأعياد القديمة ليقترح الاحتفال برمز مصرى صميم هو المبدع شادى عبد السلام ، ويرى أنّ الاحتفال يأخذ اسم (سينما المصريات : مهرجان جيوش الشمس) ويتم عرض أفلام شادى (المومياء، الفلاح الفصيح، جيوش الشمس، كرسى توت عنخ آمون، الأهرامات وما قبلها ، رع مسيس الثانى) مع الدعاية المنظمة محليًا وعالميًا . هذا الاحتفال الذى يُحقق إحياء ذكرى هذا الفنان المُبدع العاشق للحضارة المصرية ، لعله أنْ يكون حافزًا لأجيال جديدة تواصل مسيرته، كما أنه تنشيط للسياحة. وفى نفس السياق اقترح الاحتفال بذكرى باعث فن النحت الحديث الفنان المُبدع محمود مختار. فى هذا الاحتفال وليكن يوم 2 مايو كل عام (يوم كشف الستارعن تمثال نهضة مصرعام 28) ويجب أنْ تدعو إليه نقابة الفنانين التشكيليين بالتنسيق مع وزارة السياحة ونقابة المرشدين السياحيين ، ليعرف الجيل الجديد من هو محمود مختار، وموقف شعبنا الذى بادر بالتبرع لتمويل عمل التمثال ، الأمر الذى جعل مختار أنْ يقول بكل تواضع ((لستُ صاحب التمثال ، بل الشعب هو صاحبه)) وفى تحليل المؤلف للتمثال كتب (أبو الهول يرمز لتاريخ مصر. والتكوين الهرمى يُكمل معنى الرسوخ . وقد نزع الفنان عن أبى الهول المعنى الدينى ، عندما جعله ينتفض ليتحرك وينهض) هذا بالإضافة إلى رمز الفلاحة التى تعمّد الفنان أنْ تكون أعلى من أبى الهول .
ومن الأعياد القديمة (مهرجان آمنحوتب) يوم 21برمهات من كل عام . ومناسبة هذا الاحتفال تم العثور عليها ضمن قوائم الأعياد التى ترجمها العالم الألمانى (شوت سيجفريد) من أعمال دير المدينة بالأقصر. وأنّ من صفات آمنحوتب (محبوب العمال) ومنصفهم . ونظم طائفتهم (أو نقاباتهم وفق تعبير ماسبيرو) واقترح المؤلف أنْ يكون هذا الاحتفال تحت اسم (الاعلان العالمى الأول لتحرير العبيد) والسبب أنّ آمنحوتب استهجن تحكم الإنسان فى أخيه الإنسان ، فألغى نظام العبودية الذى لم تعرفه مصر إلاّ بعد الاحتلال الهكسوسى ، فأصدر قانونًا يمنع السخرة. لهذا فهو المحرر الأول للعبيد. كما أصدر قرارًا بأنّ الأجر مقابل العمل. وأعلن فى السنة الأولى من حكمه عام 1525ق.م فيما يُشبه عهدًا كونيًا أو إعلانًا عالميًا قال فيه ((لن يباع الإنسان ويُشترى كالحيوانات كما كان الهمج (يقصد الهكسوس) يفعلون)) وهذا النص نقله أ. سامى حرك عن العالم الألمانى أدولف إرمان فى كتابه (مصر والحياة المصرية فى العصور القديمة- ص 60) لذلك اجتمع على حب آمنحوتب كافة طوائف الشعب. واقترح المؤلف أنْ تتقدم مصر رسميًا بطلب إلى الأمم المتحدة بإدراج المناسبة ضمن فعاليات اليوم الدولى لإلغاء الرق الذى يُحتفل به يوم 2ديسمبرمن كل عام ، ومع طلب أنْ تكون صورة آمنحوتب هى شعار الاحتفالية الدولية .
من بين الأعياد القديمة (مهرجان باستت) يوم 4برموده. فى هذا العيد يتم الاحتفال بهاتورأو حتحور، بصفتها رمز الجمال فى العالم القديم ، ومنها تم استنساخ (أفروديت) و(عشتار) وبالطبع فإنّ أقدم الأعياد فى مصر القديمة هو عيد شم النسيم ، وعيد (مهرجان الزهور- عيد الشهداء) وعيد (ليلة النقطة- دمعة إيزيس) إذْ وفق الأسطورة أنّ دموعها هى مصدر مياه النيل. وعيد عودة سنوحى (مهرجان المصريين فى الخارج) بإعتبار أنّ سنوحى أول من غادر مصر، وكتب تجربة الغربة وتمنى أنْ يعود ليُدفن فى مصر. وقد ربط المؤلف بين الأعياد القديمة والأعياد الحالية (الموالد التى يشترك فيها المسلمون والمسيحيون) والتى بلغتْ وفق دراسة د. سيد عويس فى (موسوعة المجتمع المصرى) 2850مولد.
ذكر المؤلف فى المقدمة أنّ الاحتفالات هى وسيلة مهمة لإنعاش السياحة. كما أنها لا تؤثر على حركة الانتاج كما يزعم البعض ، وضرب مثالا بالشعوب التى تكثر أعيادها ومع ذلك فإنّ الناتج القومى لديهم يفوق كثيرًا الدول الفقيرة فى مظاهر البهجة. وعلى سبيل المثال فإنّ الشعب الإسبانى يحتفل فى مهرجانات شعبية طوال العام ، ومن أشهر الاحتفالات لديه مهرجان الطماطم (طوماتينا) والذى يستمر لمدة ساعتيْن كل عام من 11- 1ظهرًا . وفى عام 2009 حضره 4مليون سائح وحقق دخلا لإسبانيا 8,5 بليون يورو، أى أكثر من ضعف العائد السنوى لسنة كاملة عن نفس العام لدخل قناة السويس والتى لم تتجاوز4،37 بليون دولار. فهل يتحمّس المسئولون لهذه الأفكار؟ وهل تستجيب لها الثقافة السائدة ؟ فتكون الدافع لزيادة الدخل القومى ، والرافعة التى تحمى ثقافتنا القومية وتـُعمّق الانتماء لحضارة جدودنا ، فى جديلة واحدة ؟