رئيس التحرير
يوسف سيدهم

تحت خيمة السيرك 

 -----------------كان مساء ربيعي نسماته دافئه ، سمائه بلون اللبن ، وعلى جانبي  الصفالطويل من حاملي التذاكر لدخول الخيمة البيضاء الكبيرة كانت ساحة خضراءشاسعه ، تناثرت فيها زهرات صغيرة نبتت من تلقاءها دون ان تزرعها يد ، تشابكت الوانها بين الاصفر و البنفسجي ، تمايلت مع الريح الضعيفه فدفعتبتنهيدة مرحة راضية من صدري .تقاصر الصف و في دوري سلمت تذكرتي وخطوت خطوتين الى داخل الخيمه ، فجأة حل الظلام ، و كأنما خطوت الى مجرة أخرى غير مجرتنا ، نجوم ملونهتلمع في سماء الخيمة، شموس ذهبيه في الاركان ، كون آخر بخلاف كوننا ، عالم موازي ، سحب ثنائية الابعاد ، مقاعد مسرحية الاستدارة ، انتشرت فيالهواء رائحة غير كوكبنا ، بلا ادخنة او عوادم سيارات ، رائحة الحلوى و الفشارفقط !!! جلست في مقعد في صف محدد ، وجال نظري فيمن حولي ، زوار من كوكبنايشاهدون كوكبنا في الكون الموازي !!! -------- في الخلف كانت حجرة المهرج ، شاب رياضي في الثلاثين ، يجلس امام مرآتهالصغيرة المكسورة ، وبيده المدربه بدأ يطلي وجهه بلون ابيض واضح ، و حينامسك بقلم احمر طري توقف للحظة و دقق النظر ، كل ليلة يتأكد له ان دورالمهرج هو اعظم دور لعبه الانسان في على مر التاريخ ، ليس لأنه يضحكالناس و لكنه يريحه هو شخصياً ، يرتدي ملابس فضفاضه فلا يعلم احد حجمهالحقيقي ، سمينا بزيادة او رفيعاً معيوباً ، طويلا قصيرا ، رياضي متهدل ، لاأحد يعلم اي شئ ، وذلك الخط المنحني الذي يرسمه على وجهه كل ليله ، ابتسامة لا تنقطع ، فلا حاجة لجذب عضلات وجهه يساراً و يمينا ،استرخاءكامل ! قناع ملون و رداء فضفاض ، قفزات في الهواء.وبعد ان ينتهي الدور ، يعود شاباً جاداً ناضجاً يلتقي صديقته على ناصيةالشارع المؤدي الى شقتهما الصغيرة، يصب لها كأساً من النبيذ و يلتقط قطعاً من الجبن ، و يعانقها حتى الصباح !ويتأرجح بين البهلوان الابله و الشاب العاشق الجاد كل ليلة . ------دقات طبول قويه ، و ساد صمت ، كتم الاطفال انفاسهم عدا طفل اسقط لعبةصغيرة برنين ضعيف تدحرجت و لمست رجلي ، احضرتها وناولتها له ، فإبتسممن بين دموعه ، و لامست اصابعه اللينه كفي الكبير .استدرت فكان البهلوان يتقافز ، مسكين قلت في نفسي ، من اجل حفنة منالمال يتقافز في بله ، عجوز مترهل بالتأكيد .أعلن المهرج عن الفقرة التالية .. لاعباً و لاعبة يتأرجحان على مراجيح تتدلى منالسقف ، لحظة فوق الجميع و أخرى ينحدران بسرعة كالقذيفة الى اسفل ، فيمد يده و يجذبها ، يمسك بذراعها و تتعلق بذراعه ، ويرفعها و يعود فيسقطها، لتتعلق به ، وكأنما اسعد لحظاتهما تتمركز في لحظة لقاءهما.وفي ختام فقرتهما تقفز فلا يسعفه الوقت لإلتقاطها فتسقط على شبكه كبيرة لم يكن اي من المشاهدين قد رآها من قبل ، كانت الانظارمعلقة على حركاتهما الجريئة ، بينما قبعت الشبكة في مكانها بين الظلال ، ممدوة تنتظر الجسد الذي يتهاوي بين احضانها كل ليلة .وسط شهقاتنا نحن المتفرجون من الكوكب الآخر ارتفع صوت عميق يمتثلالحكمة ..انها عناية السماء لولا الشبكه لتهاوى جسدها مفتتاً على الارض !! ----------عاد البهلوان متقافزاً ليعلن فقرة ينتظرها الجميع و من خلفه كان عمال ينقلوناسواراً شبكيه معدنيه عاليه ، يثبتونها في مهارة شديدة ، وعندما انتهى العمالو غادر البهلوان .. دخل مروضو الاسود  .. في ثياب سوداء ملتصقه بأجسادهم، وفي تحية خاصة للجمهور ، دخلت الاسود .. و ساد صمت و تجولت الوحوشفي عزة بحركة دائرية متحدية .. و بدأ المدربون يأمرون الاسود فتطيعهم ، يأمرونها بقسوة و كأنما القسوة طوعت الاسود و روضتها .. كان الرجل يدير للأسد ظهره في ثقة و المرأة تتدلل امامه في استخفاف ..و يتفجر التصفيق في كل مرة ..وفي الختام دارت الاسود في حلبتها للمرة الخيرة قبل ان تغادر مشاهديها .. ولكن ثلاثه رجال من المتفرجين اقتربوا من الاسوار ليلتقطوا صورة قريبة فتوقفتالاسود للحظة امام الرجال الثلاثه الوقوف خلف الاسوار خارج برنامج التدريب.. و ارتبك المدربون .. و كان احدهم يحمل سوطاً فضرب الارض به كما اعتادان يفعل لينبه الاسد .. و لكن الاسود تجاهلته و وجهت نظرة ثاقبة نحو الرجالالثلاث .. و زأرت جميعاً في مفاجأة مخيفه .. سقط احد المصورين على ظهرهباكياً، و تسمر الثاني في مكانه ، اما الرجل الثالث فاجاب زئير الاسد بزئيرأعلى و اكثر قوة .. كان مشهداً عجيباً ، اعجب من عرض الاسود ذاته. ثوان و استدارت  الاسود عائدة الى اقفاصها ، و صمت مطبق على الخيمةالبيضاء .----في الاستراحة تماماً بعد فقرة الساحر ، توجه الحاضرون الي خيمة اخرىسقفها ازرق ، ورصت مناضد كبيرة طويلة عليها مشروبات متنوعة و اطعمةسريعة و حلوى و فشار ،، ووقفت فتاة صغيرة تترجى امها .. اريد ان اتزوج الساحر ، اريد ان اقضيمعه ما تبقى من عمري .. ارأيت كيف اخرج ارنباً من قبعته و اعاده مرة اخرىثم نفضها و طارت منها تلك الحمامة البيضاء ، اود ان يصبحني كل يوم بوردةكتلك التي اخرجها من عباءته السوداء .. ضحكت الام في بادئ الامر ، و لكنالابنه ظلت على الحاحها ، و لا تريد ان تدخل السيرك مرة أخرى ، قالت يكفينيما شاهدته الى الان ، عبست امها وقالت .. يا بنيتي ليس في الامر سحراً ، هو"فهلوي " يشتت الابصار فلا ترى خدعته ، وعندها تمردت الفتاة الجميلة واتهمت امها بالجهل ، و الخيبة ، و قالت ليس لأنك لم تتزوجي ساحر علي اناايضاً ان اعيش بلا سحر .حارت الام فيما تجيب ، كاد عقلها يلين ، ربما كان سحراً ، ربما تأخذ ابنتهانصيباً خيراً من نصيبها ، و تتزوج من يسحرها .وكان الحضور قد غادروا خيمة الاستراحة وعادوا الى مقاعدهم عدا الام وابنتها ، ومن باب خلفي جانبي ، دخل رجل بعباءة سوداء و التمعت عينا البنيةو كادت تفلت يدها من امها و تلقي نفسها بأحضانه ، شدت الام على قبضتهاو راقبتا من بعيد الرجل بعيدا عن الاضواء ، لم يكن رشيقاً كما اظهرته الاضواء، لم يكن وسيماً و لم يكن ظهره مشدود ، قليل من انحناء و قليل من سمنة ، مديد ضعيفة نحو البائع و اشترى كوباً من الصودا السوداء ، رفعها الى فمهفتساقطت على ذقنه وبللت قميصه ، فسب سبّة عالياً و مسح ذقنه براحة يديهو سقطت عنه عباءته الساحرة. رفعت الفتاة عينها نحو امها وقالت .. هيا يا أمي ندخل قبل ان يفوتنا العرض !! ------موسيقى شرقية تتماوج في جنبات الخيمة ، و رجل يتوسط المكان و يمسكبيديه عصاتين كبيرتين يصل بينهما حبل طويل ، ووعاء ملئ بالماء و الصابون وبعض الجلسرين لضمان متانة الفقاعات ، و بدأ بعصاتيه و على انغام موسيقاه، بتفنن في صناعة الفقاعات ، و ارتفعت الرؤوس تراقبها و تبهر بالالوانالطيفيه المتماوجه معها ، و بالاشكال الفنية و كأنما تماثيل حقيقيه .. ثم دخلتفتاة راقصة و رجل متأنق في بدلة سوداء ، و طفلة ممزقة الثياب ، و آخرون وآخرون ..وبدأ الرجل يصنع حول كل منهم فقاعة كبيره و بدا المنظر مثيراً مبهراً .. و كلماتفجرت فقاعة الصابون اسرع متعجلاً لبناء اخرى .. و لكن الى متى و العرضيوشك على الانتهاء .. و مع موسيقى الختام ، تمزقت الفقاعات و إلتقي الرجلالمتأنق بالراقصة ، امتلأت الوجوه امتعاضاً، و استنكاراً و شهوة .. و كأنمافوجئ احدهما بوجود الآخر ، او ان الفقاعات كالحدود بين الدول .. لا يمكنتجاوزها.------------آخر الفقرات .. بدأت برجل تلتف حول ذراعيه حية .. ثعبان رفيع طويل املس .. اقشعرت الابدان جميعاً لدى رؤيته .. و تراجع الناس حين فتح وعاء و آخر .. وبدأت الحيات تخرج و تتصاعد حوله .. ما الذي يمنع ثعباناً منهما ان يهرب خلسة و يزحف نحو الجمهور !و بدأ الرجل يلهو بالناي ..و الحضور يراقبون الساعات عله يمشي بثعابينه !وادرك المتفرجون ان الحية اكثر قوة من الاسد !و الرجل يعزف الناي و حياته تتراقص ..ومع مغادرته تنهدات و زفرات ارتياح .-----------------وعلى هامش الحياة .. في مدرجات السيرك و بين صفوف المتفرجين ، كان رجلو امرأة غائبين عن الحضور ، يراقبون دقائق ثم يغيبون في قبلة طويلة .. ويلتفتون و السيرك كما غابوا عنه ، لم يتبدل فيه شيئاً ، فيغرقون في عناق وكأنما عالم آخر بين ذراعيهما.ابعد منهم بقليل جلس رجل تتعلق الى جواره زجاجة محلول طبي ، مال عليواخبرني انها ايامه الاخيرة على الارض ، لذا طلب من طبيبه ان يسمح لهبزيارة سريعة الى السيرك ليستجمع فيها كل لحظة عبرت به على هذا الكونالممتد محاذياً لأرضنا. و هناك في جانب الخيمة البعيد ، وعلى مكان مرتفع قابع في الظلام .. رجلامامه لوحة مفاتيح كبيرة .. و يد مدربة .يتحكم في الاضاءات و الموسيقى ، واحيانا بعض الادخنة من هنا ومن هناك . مهندس الصوت و الضوء ، الذي لا يعلم بوجوده احد ..

اقرأ المزيد
Page 34 of 49 1 33 34 35 49

الحد‏ ‏الأدني‏ ‏للأجور‏ … ‏كيف‏ ‏سينطبق‏ ‏علي‏ ‏القطاع‏ ‏الخاص‏ ‏؟

المزيد

الأكثر مشاهدة

العدد الأسبوعي