التجارب السلبية قادرة على توليد تغيير إيجابي يشمل إدراك القوة الشخصية الكامنة، واستكشاف احتمالات جديدة، وتطوير العلاقات مع الآخرين، وتقدير الحياة بدرجة أكبر، إضافة إلى النضج الروحي، والمتانة النفسية، والقدرة على تطوير النفس بطرق مفيدة. وأيضًا تمنح الإنسان رؤيا أصيلة قادرة على إخراجه من أزمات وتحديات الحياة البشرية إلى آفاق جديدة واختبار حي.
لا يوجد إنسان على وجه الكرة الأرضية منذ الخلق وحتى يومنا وإلى نهاية العالم لم يجتاز تجربة سلبية، أو اختبار ألم، أو خبرة فشل، فالجميع متألمون، والجميع يعانون، والجميع يصرخون ويتأوهون.
فالحياة اليومية تحمل تحديات وضغوط مختلفة ومتنوعة، واللحظة الراهنة في تاريخ هذا الجيل تمثل ذروة الأحداث مما يجعلها ظرفًا استثنائيًا. وبالنظر إلى سجل الأحداث المتتالية والمتصاعدة منذ خمسة عشر عامًا مضت نكتشف عددًا من الأحداث السياسية، والاقتصادية، والبيئية، والاجتماعية، والصحية … وعلى سبيل المثال – لا الحصر: الأزمات الاقتصادية التي ضربت العالم أكثر من مرة، ومازال تأثيرها حتى هذه اللحظة، مما انعكس على طبيعة طبقات المجتمع الداخلية. والإضطرابات السياسية والثورات الداخلية التي أدت على تغيير أنظمة الحكم داخل العديد من البلاد. والأوبئة التي انتشرت كالنار في الهشيم في كل العالم مثل وباء كورونا، وحصدت الآلاف من البشر. والحروب العالمية كالحرب الروسية الأوكرانية، والصراع العربي مع الكيان الصهيوني، مما كشف عن العديد من الخطط لتحالفات دولية سيكون لها تداعيات كبيرة خلال الحقبة الحالية. ولا يمكن أن ننسى أزمات الوقود وسعي الدول على توفير احتياجاتها من البترول والغاز الطبيعي لضمان استمرارية الحياة.
هذه الأحداث اتسمت بالفجائية دون سابق إنذار وبلا مقدمات، فكانت كالسيل الجارف الذي أنهال على الوادي دون وجود أدنى استعداد مسبق فكانت آثاره وخيمة وشديدة ودماره كبير على الأسرة الإنسانية في أرجاء العالم كله. وهذه الأحداث لم تميز بين جماعة وأخرى، أو بين فئة دون غيرها، فالجميع بلا استثناء، وفي كل مناطق العالم تأثر بشكل أو بآخر، وحقًا نلمس الحقيقة الجليّة أن كل الخليقة تئن وتتمخض من جراء هذه الضغوط، والجميع يحتاج إلى معونة للخروج من الأزمة، بل من الأزمات المتتالية.
يخبرنا بعض علماء علم النفس بأن الإنسان قد يتحمل أي ضغوط، حتى لو كانت قاسية، عندما يعرف مداها ونقطة نهايتها، لكن الضغوط الحالية، بتنوعاتها المختلفة، يصعب على أي فرد أو جماعة -حتى المتورطون فيها- أن يتنبأوا أو يعرفوا متى تنتهي. فتحمُّل وصبر الناس بدأ يضعف وينهار، وبدأ الجميع يشعر أن الأيام ثقيلة، وتسير ببطء شديد، فعمت حالة من الضجر والملل العام والضيق النفسي، وبات النفق مظلم وبعيد المنال، وتوقعات المستقبل غير مريحة ومقلقة. وبالأخص أن طبيعة أزمات هذا العصر في ظل الانتشار غير المسبوق لوسائل تناقل الأخبار عبر الفضائيات والمنصات الرقمية، جعل العالم بالحقيقة عزبة صغيرة، في لحيظات يعرف الجميع ما أصاب الجانب الآخر من العالم. فلم تعد الأزمات محلية محدودة التأثير، بل أصبح لها وجوه عديدة من التأثير على الأفراد والأسر والجماعات والدول، على المستوى القاري أو الإقليمي أو العالمي، بل على المستوى الكوني والوجودي.
ويبرز السؤال الوجودي داخل الوجدان الإنساني: ماذا نفعل وسط هذه الأجواء المعتمة شديدة الصعوبة على كل المسارات؟ هل من رجاء للخروج من الأزمة والعودة إلى طبيعة الحياة الأصيلة التي افتقدناها ونسيناها؟ هل من أمل لإيجاد حلول حقيقية ملموسة لحالة الإحباط العالمي؟ هل من سبيل لتحقيق رؤى التنمية والتطوير والتغيير؟ هل من خارطة طريق واقعية تخرجنا من النفق المظلم؟
نعم، وبكل تأكيد هناك رجاء، هذا الرجاء مرتبط بالله الخالق ضامن الحياة، وفي نفس الوقت في استدعاء التكليف الإلهي للإنسان ودوره ومسئوليته. وعلى مر العصور وفي مختلف الأزمنة وجدنا أن هذا التلاحم والتكامل بين الدور الإلهي والدور الإنساني أوجد العديد من المخارج الحقيقية لأزمات كادت أن تعصف بالحياة البشرية على كوكب الأرض، وبعد كل انتكاسة انتفض الجميع وتحمّل المسئولية فعادت الحياة ببريقها وجودتها وروعتها من جديد. هذا الإيمان الراسخ بأن للحياة مالك لهذه الحياة قادر على كل شيء، أوكل للجماعة البشرية مسئولية الرعاية والحفاظ عليها. هذه الجماعة أعطيت كل إمكانيات وقدرات على إتمام مهامها بفاعلية وجودة عالية، ولكن بشرط أن تُحسن استخدام أدواتها بطريقة صحيحة سليمة.
وأول ما يملكه الإنسان المسئول هو الرؤيا الصحيحة، وهي تعني عدم الرضى العميق عما هو كائن، والسخط على الوضع الراهن، والاشمئزاز لما هو مخالف، وإدراك واضح لما يمكن أن يكون. يقول العالم اللاهوتي الإنجليزي جون ستوت: “كلا الأمرين واضح في خدمة يسوع العلنية – التي ترسم لنا ملامح الطريق للتلاحم بين الدور الإلهي والدور الإنساني – قد كان ساخطًا على المرض والموت وعلى جوع الناس وظلمهم لأنه أدرك أن هذه الأمور غريبة عن قصد الله. ومن هنا جاء حنوه على الإنسان، كل إنسان وكل الإنسان. والسخط والتعاطف يؤلفان اتحادًا قويًا”. اغضب ولكن عليك القيام بفعل إيجابي لعلاج ما أثار غضبك. لقد ثار سخط مارتن لوثر كنج بسبب مظالم التفرقة العنصرية، وحَلُم بكرامة السود في أمريكا الحرة المتعددة العروق. وعاش ومات لكي يتحقق هذا الحلم. الرؤيا تتعلق بالمجتمع الأفضل التي أقنع بها مارتن لوثر أتباعه وآمنوا بها فتحققت على أرض الواقع. قال الكاتب الأمريكي روبرت جرين: “لا يمكن أن يحدث شيء عظيم دون حلم، ولكي يحدث شيء عظيم ينبغي أن يكون هناك حلم عظيم. فوراء كل إنجاز عظيم هناك من يحلم أحلامًا عظيمة .. هذه هي الرؤيا”
علينا بكل تأكيد العمل الشاق وبذل الجهد، والكد، والمثابرة العنيدة، وتحمُّل المسئولية، والالتزام المنضبط، والمقاومة الجادة، والقيادة الخادمة. ولكن كل هذا بدون الرؤيا الواضحة والإدراك الحقيقي لما يجب أن يكون يجعل من تحركاتنا عشوائية، وبدلًا من الخروج من النفق المظلم، نحفر طرق بديلة تؤدي إلى تيهاننا وضياع فرصنا. علينا أن نكون أمناء – وليس بالضرورة ناجحين – في طاعتنا للرؤيا السماوية للعمل مع الله لأجل خير البشرية وسلامها.