تعودت وطني في هذا الشهر من كل عام أن تفرد مساحات لتوثيق ما تزخر به الذاكرة المصرية من أحداث وذكريات وحوارات مرتبطة بانتصارات أكتوبر 1973, وهو ما أطلقنا عليه عبر السنين أكتوبريات… وفي أكتوبر هذا العام تحل مناسبة غير مسبوقة لها مذاق خاص, هي الاحتفال بمرور خمسين عاما علي انتصارات أكتوبر الخالدة, تلك الانتصارات التي تعد بلا جدال استعادة الكرامة والعزة للقوات المسلحة المصرية ونجاح القيادة السياسية المصرية في فرض إرادتها نحو تحرير تراب مصر واستعادة ما تم احتلاله من أرضها في يونيو 1967, إنه اليوبيل الذهبي لانتصارات أكتوبر, وبقدر ما يحمله هذا الإرث من عزة وزهو وما يصاحبه من مظاهر احتفالات وفرح, أشعر بمسئولية جيلي الذي عاصر وعايش كل هذا التاريخ أن يفتح الملفات المرتبطة به ويسلط الضوء عليها بكل ما انطوت عليه من محن وآلام وتحديات وعمل شاق وتضحيات عبدت الطريق للانتصار العظيم الذي أبهر العالم وشهد له العدو قبل الصديق, وبات نموذجا خالدا حفر بصمته في جميع الأكاديميات العسكرية حول العالم.
لست أقلل من سائر الوثائق والكتب التي وثقت لحرب أكتوبر المجيدة والتي ترصع المكتبة المصرية, لكني وجدت نفسي أعود لأبحث وأنقب عن قصاصات لها منزلة عظيمة في نفسي سبق أن اقتطعتها من صفحات الأهرام خطها قلم الزميل العزيز إبراهيم حجازي -رحمه الله- الذي عهدناه نجما ساطعا في محراب الرياضة والتحليل والنقد الرياضي إلي أن باغتنا بتوثيق خبرته المعاشة بطلا وفارسا مشاركا في حرب أكتوبر وشاهدا علي العمل الإعجازي الذي تمخضت عنه لاستعادة الأرض والكرامة المصرية… وها قد حانت الفرصة -فرصة اليوبيل الذهبي- لإعادة نشر شهادة إبراهيم حجازي عن سنوات المعاناة والاستنزاف والمعركة والنصر.. العمل الإعجازي.
** إن تقدير الشعب المصري للجيش المصري حق وحقيقة, وملاحم الفداء والعطاء والشجاعة والتضحية في حرب أكتوبر المعروف منها للمصريين هو القليل -بل القليل جدا- والكثير بل الكثير جدا لا يعرفه الشعب… مهم جدا أن يعي الشعب بطولات وتضحيات أبطاله في جيش مصر وشرطتها وقصص الشجاعة والفداء التي يتوجب أن تبقي العمر في ذاكرة المصريين, رصيدا لا ينفد من الفخر والاعتزاز بالوطن مصر.
** كل ما حدث يجب ألا ينسينا أن مصر محمية بأمر ربها الذي جعل أبناءها خير أجناد الأرض.. مكلفين من رب السموات والأرض بحماية الأرض التي أطل الله عليها بنوره العظيم وصوته العظيم… مصر أكرمها الله بما لم تحظ به أية بقعة أرض في العالم, سبحانه وتعالي أعطاها نفحة ربانية بإطلاله عليها بنوره العظيم وصوته العظيم علي أرض سيناء التي هي بهذا التكريم وذاك التشريف باتت أرضا مقدسة زارها الرسل والأنبياء بداية من سيدنا إبراهيم ومرورا بسيدنا يوسف وسيدنا موسي ونهاية بالعائلة المقدسة.. ولذلك ستبقي مصر إلي يوم الدين في معية الله وآمنة بأمر ربها الذي جعل جيشها خير أجناد الأرض وفي رباط إلي يوم الدين.
** عن السنوات الست 1967-1973 أقول: هزيمة يونيو صدمتنا وأفزعتنا, إلا أنها -سبحان الله- أفاقتنا.. لولا هزيمة يونيو ما أصبح عندنا الجيش الذي رأيناه في حرب الاستنزاف وفي حرب أكتوبر 1973, نعم نحن بدأنا الاستعداد عام 1968 من الصفر.. المعنويات كانت في الحضيض بعد أن فقدنا أغلب ما نملك عام 1967, وكان عزاؤنا أن ما فقدناه من عتاد عسكري ما كان سيفيدنا في تحرير الأرض لأنه يعود إلي الحرب العالمية الثانية.. فقدنا معه سيناء بأكملها وخط النار الذي كان علي حدود العريش, أصبحت قناة السويس التي حفرها أجدادنا وباتت أكبر وأصعب مانع مائي في تاريخ الحروب مانعا يقف ضدنا يفرض علينا تحديات وحسابات عسيرة فيما لو قررنا الحرب.
** التدريب الذي خاضه جيش مصر في هذه السنوات تخطي مرحلة المستحيل وحطم مستويات الإعجاز, لأننا مهما امتلكنا من عتاد عسكري لن تصل كفاءته إلي نصف كفاءة أسلحة العدو.. هذه حقيقة كانت دول العالم الكبيرة متوافقة عليها.. إلا أن العبرة في النهاية بالرجال الذين سيحملون هذا العتاد, وكان التركيز كله علي إدراك أكبر معدلات التدريب.. وعندما حانت لحظة الحرب اكتشفنا أنها أسهل كثيرا كثيرا من كل التدريبات والمناورات والمشروعات التي خاضتها أفرع جيش مصر, فقد نجحنا باقتدار في أن نجعل الفارق هائلا لصالحنا بين إمكانات مقاتل العدو وإمكانات المقاتل المصري.
** خلاصة القول.. إننا في رحم أصعب وأسوأ هزيمة زرعنا بذرة أعظم انتصار في أكتوبر 1973 من خلال أكفأ مقاتل علي الإطلاق, ومن خلال أعظم عقيدة قتالية تنطوي علي فكر وتخطيط وخداع لم تشهد حرب مثيلا لها.
** ويتواصل لقاؤنا مع إبراهيم حجازي.. شاهد علي العمل الإعجازي.