يتساءل صاحب حانة جارتر في مسرحية شكسبير زوجات وندسور المرحات هل أنا سياسي؟.. هل أنا خبيث داهية؟.. هل أنا ميكافيللي؟
لقد أطلق علي نيقولو ميكافيللي مثل هذه الصفات: الخبيث, الداهية, الشيطان!!
ومنذ أن مات من أربعة قرون ونصف قرن من الزمان, والمؤرخون والكتاب يصفونه بمثل هذه الصفات.. فقد أطلق توماس جيفرسون علي ميكافيللي ألفاظا نابية, منها: الوقح, واللئيم, والجبان.. كما أزعجت كتابات ميكافيللي الإمبراطور فردريك العظيم, فتحداه بنقده ورده علي افتراءاته.. وفي إنجلترا كان يظن أن اسم نيقولو أو نيقولاس كان معناه الشيطان!
ولعل كتاب ميكافيللي الأمير هو الذي سبب هذه الشهرة غير المستحبة له.. هذا الكتاب الذي طبع بعد خمس سنوات من ممات ميكافيللي, ترجم إلي جميع اللغات المعروفة في العالم.. ومن بين ما جاء فيه هذه العبارات علي سبيل المثال: هناك طريقتان للقتال.. الأولي عن طريق القانون.. والثانية عن طريق القوة.. فالأولي يطرقها الرجال, والثانية تطرقها البهائم, ولكن بما أن الطريقة الأولي غير كافية أو مجدية, فالإنسان مضطر أن يسلك الطريق الثاني أو ينفذ بنود الطريقة الثانية!.. أو علي الحاكم الفطن ألا يثق بإنسان لأنه لو وثق بالناس لضاعت هيبته, إلي غير ذلك من أقوال صدرت من إنسان لا يثق بالناس أو يحب مصالحهم.
ولقد انكب المؤرخون الحداثي علي دراسة حياة هذا الرجل, فوجدوا فيه إنسانا مؤثرا قويا فريد عصره.. كان أول من توغل في فحص قوانين بلده, وبقدرة خارقة استطاع أن يشرح بإسهاب وتفصيل لعبة القوة وسلطانها, كما تمثل علي مسرح الحياة في هذه الأيام.
كانت قوة ميكافيللي العقلية الخارقة منبعها حبه الشديد إلي وطنه الذي أحبه أكثر من نفسه. فأبرزها أكثر من البلاد التي كانت تنافسها مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا.. ففي الوقت الذي ولد فيه ميكافيللي, أي في عام 1469, كانت مدينة فلورنسا ولاية مستقلة تسيطر عليها وتحكمها عائلة ميشي, أصحاب البنوك والثروات وعندما بلغ الخامسة والعشرين طردت عائلة ميشي من الولاية, وبعد أربع سنوات احتل ميكافيللي وظيفة رئيس القضاة الثاني, وتألق نجمه, وأصبح معروفا بأن عقله الحاد كالسكين يستطيع أن يفك طلاسم أي مشكلة معقدة..
وكانت المشاكل التي تعرض عليه ذات طبيعة سياسية, وكان الرجل يجد نفسه يقوم برحلات عبر السهول وفوق جبال الأيبثين الثلجية, ولكن افتقاره إلي الثروة منعه من أن يصبح سفيرا لبلاده.. وبعد مرور وقت, أرسلته الدولة في مهمة خاصة, قابل فيها ملك فرنسا لويس الثاني عشر, وأخري تقابل فيها مع دوق سيزار بورجيا المغامر الدموي الجسور الذي كان يكون ولاية في وسط إيطاليا, والذي أصبح فيما بعد بطل ميكافيللي في كتابه المشهور الأمير, وكان سيزار هذا ابنا ذكيا للبابا ألكسندر السادس. وتأصرت بين الاثنين, الدوق وميكافيللي صداقة إعجاب, فنجح ميكافيللي في مهمته وأنقذ فلورنسا من دفع الجزية إلي الدوق القوي الذي كان يهدد بغزوها, وفي هذا الوقت مات البابا ألكسندر السادس, فتداعت إمبراطورية ابنه سيزار.
لقد انغمس ميكافيللي في ثلاثين مهمة سياسية, فقد بعث إلي فرنسا أربع مرات, وسافر إلي سويسرا والتيرول, وزار موناكو للمفاوضة. وكان سريع التحرك بدرجة غريبة, وكانت نصيحته لمساعديه دائما: راقبوا الأمور بحذر واكتبوا عنها التقارير من وقت لآخر..
والغريب أن أحكامه كانت دائما صحيحة.. وفي كثير من الأحيان كان الرجل كله آذان وعيون.
وعندما بلغ الثالثة والأربعين, انتهت ولايته, لأن البابا جوليوس الثاني كانت إسبانيا تسانده, فهدد فلورنسا بالغزو إلا إذا عادت عائلة مديشي من منفاها, وعادت العائلة القوية وحكمت فلورنسا من جديد, بعد أن استبعدوا عن الحكم طوال ثمانية عشر عاما.. واعتقل ميكافيللي وأودع أعماق السجون, وعذب لمدة ثلاثة أسابيع, وفي مارس عام 1513, أفرج عنه وأصبح حرا طليقا, فانعزل عن الناس في ضيعته الصغيرة جنوب فرنسا, حيث كتب كتابه الثوري الأمير, الذي اعتبر دستورا للساسة.
وفي عزلته الجديدة أخرج كتابا عن حياة وموت الأمم والشعوب, وكتابا آخر عن فن الحروب.. أما مسرحيته ماندراجولا فتعد في نظر النقاد من أبرع المسرحيات الكوميدية التي كتبها إنسان.
ونسي الناس ميكافيللي, حتي كلفته عائلة مديشي أن يكتب تاريخ فلورنسا, فانكتب علي كتابة تاريخ المدينة مدة خمس سنوات كاملة.
وفي عام 1527, طردت فلورنسا عائلة مديشي وأصبحت جمهورية حرة.. وخلت وظيفة سكرتير الولاية, ولكن إنسانا لم يفكر في ميكافيللي فمات متأثرا بقرحة في المعدة بعد شهر واحد من تأسيس الجمهورية.
وفي كتابات ميكافيللي السياسية الكثيرة اعتبره النقاد أبا للسياسة وعلومها وأول وطني ظهر في إيطاليا, وقد أهداه الناس قبرا رخاميا في كنيسة الصليب المقدس بفلورنسا, حيث رقد منذ عام 1527 بين غيره من أبناء فلورنسا المخلصين, تحت لافتة رخامية حفرت عليها هذه الكلمات: اسم عظيم.. لا يمكن لأي مديح أن يباركه…