الحروب الأهلية… معارك تبدأ سياسية وتنتهي بمحن وطنية يدفع ثمنها المدنيون, فيقدمهم الساسة قرابين علي مذبح المعارك, هذا ما تشهده الساحة السودانية منذ عقود, حروب أهلية عدة أدت بمجملها إلي مقتل الملايين, مع اختلاف أسبابها وأطرافها, فمنذ خمسينات القرن الماضي, كان السودان مسرحا للصراعات والخلافات السياسية تارة, والدينية أو العرقية تارة أخري. تجددت المحن وبلغت ذروتها خلال الشهر الماضي حينما اندلعت اشتباكات عنيفة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أنحاء متقرقة من البلاد, وفي 15 أبريل تصاعد العنف بين القوتين العسكريتين الكبيرتين, الجيش النظامي وقوات الدعم السريع, تلك القوات التي تشكلت رسميا في عام 2013, بهدف إعادة نشاط ميليشيات الجنجويد لمواجهة الجماعات المتمردة في إقليم دارفور, وتمت إعادة هيكلتها لتصبح تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني بالسودان, وعلي الرغم من إنها كانت تقاتل باسم الحكومة السودانية خلال حرب دارفور في عام 2003,إلا أنها سجلت جرائم كبيرة خلال الحرب, وقبل أيام تبادلت القوتان الاتهامات, فالجيش السوداني يتهم الدعم السريع بالغدر والخيانة ومهاجمته, بينما ترد له قوات الدعم السريع الاتهامات العكسية. هذا هو البعد السياسي لكن الأسوأ هو البعد الإنساني.
الوضع الإنساني غاية في التردي, الرصاص يستهدف الفارين, الجثث تبقي في الشوارع لأيام خوفا من إطلاق جديد للنار, وما بين الخوف من عواقب الفرار واستحالة البقاء, تعاظم الشح في المواد الغذائية, وتوقفت المرافق الصحية والطبية, وسط انقطاع للكهرباء وخدمة الإنترنت. انتشرت الجرائم بكل أنواعها, وتفشي انتقام النيقروز, أو كما ينطقها السودانيون النيجروز, وهي عصابات الشوارع, وزاد الأمر سوءا اقتحام السجون وإطلاق المساجين في الشوارع, فعاثوا فسادا, وانتشر النهب والذبح واغتصاب النساء, حتي صارت أجساد النساء ساحة للمعارك السياسية. يبدو أن النساء هن الضحية الأسهل في كل المعارك.
في هذا الشأن وصلتني رسائل استغاثة من عدد من القراء, تمكنوا من الاستماع لشهادات حية من أصدقاء ومعارف وأقارب في السودان من السودانيين أو المصريين المقيمين هناك, وبدورهم نقلوها لي, يتوسلون لمن يستطيع أن يشجع علي فعل شيء من أجل المحتجزين في حلبة الصراع, ومن أجل النازحين, والرعب الذي يطال النساء والفتيات النازحات في ظروف نفسية مرعبة بسبب الاغتصاب الجماعي, ولأنالعلاقات الدبلوماسية تتولي إعادة وإدخال وتسكين النازحين يبقي لنا التشجيع علي الاحتواء الاجتماعي والإنساني, وتقديم الدعم النفسي, خاصة أن الانتهاك الجنسي ليس وليد الاشتباكات الأخيرة, فمنذ أن اندلع الاقتتال في ديسمبر من العام 2018, ارتفعت معدلات العنف الجنسي ضد النساء,حينها خرجتالنساء في تظاهرات غاضبة رافضة استخدام أجساد النساء في تصفية الصراعات السياسية, حسب تعبير الكاتبة السودانية أمل هباني, ذلك الاستخدام الذي مورس بأبشع الطرق في النزاعات المسلحة في أطراف السودان, خاصة دارفور بغرض إذلال النساء ومجتمعاتهن التقليدية وموروثاتها التي تعتبر الاعتداء علي النساء هتكا وإذلالا لشرف القبيلة والأسرة بأكملها. وفي فبرايرمن العام 2022 تم اغتصاب سيدة ومقايضتها بذبح أطفالها, وكانت شهادة الناجية آنذاك لم أرغب في فقدان أطفالي, لذلك بقيت صامتة بينما اغتصبني خمسة, شعرت حينها أن نهايتي قد اقتربت لأن فوهة البندقية كانت موجهة إلي رأسي.
إذا الأمر تراكمي, فانتهاك أجساد النساء يسبق التصعيد الأخير بسنوات, وهو ما يحتاج إلي تعاط من نوع خاص من أجل دعم المطعونين في أرواحهم وشرفهم, من النساء والرجال, الأمر لا يقتصر علي التسكين والطعام والعلاج وحسب,وإنمايكمن في تعاط إنساني مختلف, بعد استخدام الاغتصاب وسيلة للإرهاب, بل وسياسة للتحريض الطائفي ضد الأقليات أيضا, لذلك أناشد العاملين في حقل الإغاثة الإنسانية الوعي بأن اغتصاب النساء سلاح صامت صمتا يجعل ضحاياه غير مرئيين, بسبب بقاء الضحية تحت سيف الصمت خشية التعرض للوصم والعار, فيجب التعامل مع اللاجئات, حتي اللواتي لم ولن يفصحن عن تعرضهن للانتهاك, بسبل تضمن الدعم النفسي العاجل لترميم نفوسهن من الويلات التي قفزت إلي صدورهن فأصابتهن بالعطب الروحي قبل الجسدي.