ارتبط اسم الراحل الأب وليم سيدهم اليسوعي بلاهوت التحرير، ومن يعرفه يدرك تماما أن هذا الارتباط ليس ارتباط باحث بموضوع، أو حتى ارتباط مصلح دينى بتوجه أخلاقي، ولكنه ارتباط حياة وممارسة وإيمان، فقد كانت حياته تجسيدا لما يؤمن به وهو الخلاص من الظلم والخوف، وسبيله إلى ذلك لم يكن الوعظ والإرشاد وإنما العمل الإنسانى والاجتماعى والإبداعى من أجل بناء اخوة إنسانية عابرة للأديان مبتغاها الحق والعدل والسلام. فلم يكن يشغله صراعات حضارات أو ثقافات، ولكن ماكان يعنيه هو صالح البشر والحق فى الكرامة الإنسانية للجميع.
وإذا تحدثت عن شخصية الراحل الأب وليم، أقول أن كل من عرفه، أدرك المعنى الفعلى والعميق لكلمة “المحبة” و”الكرامة”، ويكفي هذا لأنه يعنى الكثير.ولكنما أود الإشارة إليه فى هذه السطور هو انتماء الراحل فكرا وممارسة إلى لاهوت الحياة، إنها الرسالة التى عاش بها ومن أجلها. وأعترف أنه كان لى حظ كبير في التعرف على أفكار لاهوت التحرير والحياة من خلال كتاباته وفى معيته. كما كان لى شرف تقديم قراءة لأحد أهم كتبه وهو “لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية: نشأته وتطوره”. وهو الكتاب الذي أثار لدى تساؤلات عديدة حول علاقة الدين بالتاريخ والسياسة والهوية.
إن مقاربة الأب وليم للاهوت التحرير، تضع الدين فى سياقات اجتماعية وتاريحية، وبالتالى إعادة بناء الهوية الدينية دون فصلها عن المجتمع والتاريخ. فقد يكون الدين متعاليا فى شقه الإيمانى ولكنه، فى الوقت ذاته، جزء لا يتجزأ من الاجتماع البشرى فى شقه الإنسانى، يتأثر ويؤثر، والتأويل الدينى قد يكون أداة للاخضاع أو سبيلا للتحرر. ولاهوت التحرير هو اختيار لتحرير البشر من الظلم والقهر، وهذا مع كان يطمح إليه الأب وليم سيدهم، فالمسألة ليست مجرد ثقافات وأديان وحضارات تتحاور أو تتصارع، ولكن تناقضات فى حاجة إلى حلول، تناقضات بين الخير والشر، والعدل والظلم، والجمال والقبح، تلك الثنائيات الملازمة لتاريخ البشر على الأرض. يقول الأب وليم سيدهم فى قراءته لتجربة لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية: “يرى دعاة لاهوت التحرير أن الانحياز إلى جانب الفقراء فى هذه اللحظة التاريخية يعنى الانحياز إلى طاقة الحياة الكامنة فيهم ويتحول هذا اللاهوت من “لاهوت التحرير” إلى “لاهوت الحياة”، والمقصود هنا هو “الدفاع عن الحياة من أجل الجميع لا من أجل بعضهم والحياة لكل العالم لا لفئة على حساب فئة أخرى، فيفترض هذا الاختيار الجديد القديم إبداع ثقافة جديدة وأخلاقيات جديدة وروحانية جديدة”.
إن “لاهوت الحياة” التي حدثنا عنها الأب وليم يتسم بطبيعة إنسانية عابرة للأديان، وربما هذا يقلق اللاهوت الديني التقليدي في كل الأديان، والذى يعلى من شأن الهوية الذاتية على الأخوة الإنسانية. ولكن ما كان يشغل الأب وليم سيدهم فى الروحانية والإبداع الفني والعدالة والسلام ليس الانتماء الدينى أو السياسى أو الأيديولوجى، ولكن الانحياز الأخلاقي لقيم إنسانية يكون فيها العدل انحيازا والإبداع سبيلا، والأخوة إطارا جامعا. وهذه هى الهوية التى جمعتنا به ومعه، فبتنا نستشعر طاقتها وندرك تحدياتها. يقول في كتابه” إن الاخوة الإنسانية المبنية على كوننا أبناء الله تتحقق فى الصيرورة التاريخية. وهذا التاريخ يظهر لنا اليوم وله خصائص أزموية تحول دون بنيان هذه الأخوة”.
لقد رحل الأب وليم سيدهم عن عالمنا، تاركا لنا رسالة فى لاهوت الحياة، بوصفههوية إنسانية عابرة للأديان، يجدر لمن يبتغى قيم الحق والخير والجمال أن ينتمى إليها. ولو أن هناك ما ينبغى فعله من أجل استكمال مسيرة الراحل الجليل، فإن الإجابة تكمن فى الإيمان بأن الحياة التي تحفظ للإنسان كرامته يجب أن تكون المبدأ والمنتهى. رحم الله الأب وليم سيدهم.
