مصادفتان غريبتان تعرضت لهما وأنا أعد لكتابة مقالي هذا: الأولي أنني بينما كنت أراجع ما كتبت بمناسبة عيد القيامة المجيد منذ عام مضي, والذي جاء تحت عنوان: نعيش أفراح القيامة ونتعزي بسيرة الشهداء… وجدتني أستشهد بمقولة جاءت علي لسان ابنة مسلمة تعليقا علي التهديدات التي تتعرض لها بعض كنائسنا, والتي أفرزت ستارا محيطا بها من بناتنا المسلمات متشابكات الأيدي ومشكلات حزاما واقيا لها, حيث قالت: إحنا ميت مليون مصري.. كلهم مسلمين عند اللزوم.. ولكنهم أقباط عند اللزوم.. اقتلونا لو تقدروا…. والثانية معلومة تاريخية رائعة تجسد التلاحم الوطني بغض النظر عن الاختلاف الديني متمثلة في شهادة ممن يحمل مفاتيح كنيسة القيامة في القدس بينما ينتمي إلي عائلة مسلمة… وتلك شهادة قد لا يعرفها الكثيرون, وشعرت أنه يتوجب أن أسجلها حتي ندرك جميعا مغزاها ونعمل علي تفعيله في حياتنا المعاصرة المعاشة… إنها شهادة علي لسان أبي جود الحسيني الذي يحمل مفتاح كنيسة القيامة, ويعد حامي القبر المقدس الذي احتفلت الطوائف المسيحية الأسبوع الماضي بذكري قيامة السيد المسيح من الأموات, وكان شاهدا علي إغلاقه وفتحه لتأكيد تلك المعجزة الراسخة في الإيمان المسيحي… وفي هذا الصدد يقول أبي جود الحسيني:
** أنا المسلم الذي يحمل مفاتيح كنيسة القيامة التي تعد من أقدس مقدسات العالم المسيحي.. هي بالنسبة لي فخر شخصي ليست فقط بالنسبة لعائلتي ولكنها فخر للعالم الإسلامي والعالم العربي أجمع.. فهي أمانة ثقيلة يجب الحفاظ عليها.. أنا أنتمي لعائلة مسلمة تحتفظ بمفاتيح كنيسة القيامة منذ زمن صلاح الدين الأيوبي عام 1187م, أي منذ نحو 850 عاما كانت عائلتي هي المؤتمنة علي مفاتيح كنيسة القيامة.. تسلمت مفاتيح كنيسة القيامة من والدي الذي توفي عام 1992, ومستقبلا سيكون أحد أولادي هو الوريث لهذه الأمانة.. نحن يوميا نقف أمام باب الكنيسة الذي يدعي الباب المقدس, وهو مصنوع من صفائح حديدية مغطاة بخشب الجوز, والباب تم ترميمه عدة مرات لكن لم يتم استبداله, والأقفال الملحقة به هي الأقفال الأصلية التي يزيد عمرها علي ألف سنة, والتي يفتحها المفتاح الذي تتوارثه عائلتنا.. لا يوجد وصف نستطيع بواسطته ترجمة فرحة عائلتنا بائتمانها علي مفتاح كنيسة القيامة.. وهناك شائعة مغرضة يتم تداولها لتبرير وجود مفاتيح كنيسة القيامة مع عائلتنا, وهي أن هناك اختلافات بين الكنائس المسيحية, لكن الحقيقة أنه تم إعطاء مفاتيح الكنيسة لعائلتي بموافقة ست كنائس مسيحية من أجل الحفاظ علي كنيسة القيامة في المستقبل البعيد.. فمنذ زمن الفتح العربي للقدس كانت هناك وثيقة العهدة العمرية التي أجلت الشعلة التي خرجت من كنيسة القيامة وثمنتها من أجل التعايش المسيحي- الإسلامي, وتم بثها في جميع أنحاء العالم.. فهي قصة تسامح وليست قصة اغتصاب أو فتنة, فبعض السلاطين الذين حكموا بيت المقدس حاولوا هدم كنيسة القيامة, لكن صلاح الدين الأيوبي الذي حرر مدينة بيت المقدس سنة 1187م حذا حذو عمر بن الخطاب للحفاظ عليها فجمع الطوائف المسيحية وقال لهم: إني أستطيع حماية كنيسة القيامة ولكن بعد أن يتوفاني الله قد يأتي سلاطين متزمتون يقومون بهدمها, لذلك أتصور أن تعطي مفاتيح الكنيسة لأهل البيت من شيوخ المسجد الأقصي المبارك الذين ينتمون لعائلتي لحمايتها.. ووافقت الطوائف المسيحية علي ذلك, ومنذ ذلك الحين أصبحت عائلتنا هي الأمينة علي كنيسة القيامة جيلا بعد جيل.
*** تأملت هذه الحقائق التاريخية الراسخة عبر أجيال متعاقبة وتساءلت: لماذا لا نستطيع أن نفعل مثلهم؟… لماذا لا نحمي بلادنا من مغبة التطرف الديني بأن نعهد بأمر حماية مساجدها للمسيحيين, وأمر حماية كنائسها للمسلمين؟.. ماذا لو سلمنا مفاتيح مساجد مصر للعائلات المسيحية التي تعيش في ناحيتها, وسلمنا مفاتيح كنائس مصر للعائلات المسلمة التي تعيش في ناحيتها؟.. ألا يمثل ذلك قمة المحبة والثقة أن مساجدنا وكنائسنا في أيد أمينة تغار عليها وتحميها وتحفظها من أية نوايا عدائية تحاق بها؟.. وأي مسئولية وطنية, وأي أمانة وفخر نلقيهما علي مسلمينا ومسيحيينا عندما ننصبهم حامين للكنائس والمساجد عبر مدن مصر وقراها بغض النظر عن الجوانب العقيدية والإيمانية لكل طرف… أما آن الأوان أن نتدبر أمرنا وفق هذا السبيل؟