يتهم البعض الكنيسة بأنها هدامة Subversive لأنها تتدخل في القضايا الاجتماعة والسياسية والوطنية ويدعونها إلي التزام حدودها وقصر اهتمامها علي الأمور الدينية والروحية فقط عملا بقول المسيح: أعطوا ما لقيصر لقيصر, وأن في هذا الكلام الكثير من التجني وعدم الفهم الحقيقي لأسباب تدخلها في الحفل الاجتماعي. ذلك أن الكنيسة عندما تدخل في هذه المواضيع, وعندما تدعو للعمل من أجل التنمية الكاملة والشاملة لكل إنسان وللإنسان كله, فإنها لا تتخطي صلاحيتها ولا تعتدي علي صلاحيات الغير. وهي تعي وتعرف أن دافعها الأساسي نابع من تعليم المسيح في الإنجيل ومن مثله بالذات. ويجب بالتالي أن تتدسد هذه التعاليم تدريجيا ف يمختلف حقول النشاط البشري, سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا.
أما أهم المواضيع التي تعالجها الكنيسة في تعليمها في مختلف الرسائل العامة عن القضية الاجتماعية وفي الدستور الراعوي فرح ورجاء للكنيسة في عالم اليوم فهي التالية:
1ـ كرامة الإنسان وحقه في الحياة حياة لائقة وكريمة. وهذا هو الحق الأول الذي بدونه لا حدود وهذا يعني أولا حقه بالولادة, فلا يلغي بواسطة الإدهاض ولا بواسطة القتل الرحيم. إنه حق مقدس من لحظة تكونه في حشا أمه إلي آخر لحظة من حياته بموته الطبيعي هذا الحق منتهك في مجتمعنا المعاصر بصورة فاضحة ومشرعنة. إن الكثير من الدول شرعت الإجهاض وقتل الجنين في الحشا, وصارت تعاقب الأطباء الرافضين لذلك يمنعهم من ممارسة الطب.
ومن ناحية ثانية فإن الأبحاث والدراسات البيولوجية يهدد بتحويل الجنين البشري إلي مجرد نسيج من الخلايا, يتحكم به العلماء كما يشاؤون, يسمحون للبعض من الأجنة الخصبة بالحياة ويرمون الأخإي في سلال المهملات. أما في ما يتعلق بالموت الرحيم فقد أصبح الكثيرون يعتقدون أن المرضي المزمنين, والمتقمدين في السن والمصابين بعاهات جسدية أو عقلية لا يحق لهم الحياة فيعطونهم عقاقير وأدوية تسرع في وفاتهم. إننا كمؤمنين مسيحيين مدعوون للدفاع عن الحياة وللعمل علي نشر تعليم الكنيسة في هذا المجال حفاظا عل كرامة الإنسان وحقوقه المقدسة التي لا يحق لأحد التعدي عليها لأي سبب من الأسباب.
2ـ حق الإنسان في الملكية الخاصة, وهو مبدأ رفضته الأنظمة الشيوعية والاشتراكية المتطرفة أما الكنيسة فتعتبره حقصا مقدسا شرط أن لا يكون احتكارا بل يترافق مع الاستثمار الواعي يستفيد منه صاحبه والآخرون, لأن للملكية الخاصة وظيفة اجتماعية يجب التقيد بها.
3ـ حق الإنسان في المجتمع وإقامة النقابات, من أجل الدفاع عن حقوقه المشروعة بالوسائل الديموقراطية واللاعنفية. وبالتالي حقه بالتعبير عن رأيه بحرية بواسطة الإضرابات والتظاهرات السلمية الهادفة إلي تحقيق المطالب. فالإنسان بطبيعته كائن اجتماعي والدولة التي تمنعه من ممارسة هذا الحق تكون هي نفسها معرضة لأنها هي بذاتها تجمع بشري.
4ـ حق الإنسان في الأجر العادل الذي يؤمن له ولعائلته حياة لائقة وكريمة. فالعمل هو رأسمال العامل كا أن المال رأسمال رب العمل, وبالتالي فإنه يحق للعامل تقاضي الأجور المناسبة المرتبطة بالأرباح التي يجنبها رب العمل. وقد تطورت النظرة إلي النظرة إلي الأجير العادل من مجرد مبلغ يدفع للعامل كثمن لعدد من ساعات العمل إلي ما سمي بالأجر الاجتماعي الذي يفترض أن يأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الحياتية للعامل ولأفراد أسرته فيتمكن من تأمين حياته وحياتهم, أن يؤمن وفرا ماليا يستطيع من خلاله النظر إلي المستقبل بثقة.
5ـ كما أن هذا التعليم يدعو إلي احترام حق العالم بالراحة من خلال تحديد دوام العمل والحصول علي أوقات كافية لاسترداد عافيته والحصول علي إمكانية للتسلية والترفيه واللهو البرئ والشرعي.
6ـ حق العامل في أن تكون له كلمته ورأيه في الإنتاج وكيفيته وأن يتمكن من الحصول علي ما يكفيه ليتحول إلي شريك في العمل والتخطيط والتصميم, فلا يبقي مجرد منفذ آلي لأوامر تعطي له من مجهول.
7ـ احترام الغريب والأجير وهذا أمر أصبح ملحا اليوم في مختلف بلدان العالم إذ أن العولمة فتحت أبواب الدول بعضها لبعض فصار بإمكان العمال أن ينتقلوا من بلد لآخر لعملوا فيه, وصاروا معرضين للاستغلال من قبل أرباب العمل كما يحصل غالبا عندنا مع عائلات البيوت. لذلك تدعو الكنيسة لاحترام هؤلاء ومعا العمال ومعاملتهم معاملة حسنة, لأنهم أيضا مخلوقون علي صورة الله ومثاله.
العولمة:
هذا علي الصعيد الفردي والشخصي والعلاقات بين أبراب العمل والعمال. لكن تعليم الكنيسة الاجتماعي لم يبقي مقتصرا أو محصورا في هذا الحقلبل تعداه تدريجيا إلي حقول أوسع وأشمل تطال العلاقات بين المجموعات والدول, فالباباوات أخذوا تدريجيا, وخاصة مع البابا الثالث والعشرين وخلفائه يتطرقون إلي الأوضاع الاجتماعية في مختلف بلدان العالم ليعالجوا موضوع السلام والعدالة في العلاقات الدولية, ويعطوا الإرشادات ويتخذوا المواقف حول علاقات الدول مع بعضها البعض في عالم أصبح بفضل وساذل الإعلام الاجتماعية والتبادل التجاري الدولي قرية صغيرة كما شددوا علي ضرورة السعي إلي الإنماء المتوازن بين مختلف بلدان المتطورة وتلك النامية والتي هي في طور النمو, وبلدان نصف القارة الأرضية الشمالي ونصفها الجنوبي, وموضوع المحافظة علي البيئة والإنماء المتوازن بين مختلف قطاعات الإنتاج (الصناعي والزراعي مثلا) راجع في هذا المجال خاصة: أم ومعلمة, والسلام في الأرض ليوحنا الثالث والعشرين, ترقي الشعوب لبولس السادي, والاهتمام بالشأن الاجتماعي والسنة المائة ليوحنا بولس الثاني.
وهكذا نري أن الكنيسة تأخذ, في مختلف المجالات التي تهم حياة الإنسان, موقفا واضحا, مستندة في تعليمها علي أقوال السيد المسيح وأعماله, آخذة بعين الاعتبار أولا وآخرا مصلحة الإنسان وحقه في حياة كريمة, مدافعة عنه وعن حريته ليتمكن من تنمية ذاته إنسانيا واجتماعيا وروحيا في جو من الطمأنينة والسلام.
هذا التعليم يتوجه إلينا إذن كمؤمنين ومسيحيين, ويدعونا إلي الالتزام به جزء لا يتجزأ من إيماننا المسيحي. وبما أنه ليس أيديولوجية بالمعني التقليدي للكلمة فهو ليس بالتالي اختيارا نقبله أو نرفضه. إنه قضية التزام بتعليم المعلم الإلهي, ونحن مدعوون للتقيد به لأنه يضعنا أمام مسئولياتنا كمدافعين عن الإنسان في أسمي قيمه. فالكنيسة كأخصائية في أمور الإنسان كما يقول عنها بولس السادس, تدعو أبناءها للالتزام بقاضايا الإنسان الدفاع عنها, ليس من الناحية المادية فقط, ولا من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحسب, بل من الناحية الجوهرية والأساسية أولا وآخرا إنها تسعي إلي قيادة الإنسان, عبر شئون الأرض والاهتمامات المادية, إلي الملكوت السماوي الذي جاء المسيح ليبشر به. وهي بالتالي تذكرنا بكلامه في الإنجيل: اطلبوا أولاص ملوكت السماوات وبره, وكل ذلك يعطي لكم ويزاد.