إننا نعيش اليوم في عالم يسوده التشويش والحزن والقلق, إذ تطرق آذاننا أخبار الحروب كما يحدث بين روسيا وأوكرانيا, والكوارث مثلما حدث في تركيا وسوريا. وسوء الأحوال الاقتصادية التي اجتاحت العالم بأكمله, هذا الواقع يدفعنا ككنيسة إلي أن نراجع أنفسنا ونبحث عن دور أكثر إيجابية وتفاعلا في منطقتنا وعالمنا المعاصر.
هذا الحال لم يكن مختلفا كثيرا وقت المسيح, فالفقر والعبودية وعدم الأمان هو سيد الموقف. وهنا نقف لحظة لنتخيل التلاميذ وهم يدركون يوم الجمعة أن المعلم والسيد قد رحل. مات علي الصليب علي مرأي ومسمع الجميع الذين سمعوه وهو يقول: يا أبتاه, في يديك أستودع روحي. ولما قال هذا أسلم الروح (الإنجيل بحسب لوقا23:46). ولم يكن عند أي منهم ولا بارقة أمل واحدة.
ذهبت المريمات في صباح يوم الأحد لقبر يسوع حتي تطيبن جسده بالحنوط, وهن يجرجرن خلفهن خيبة الأمل, وضياع الرجاء, هنا في القبر في قاع اليأس والخوف والقهر, لكن لم تكن هذه النهاية, فهنا وإذا زلزلة عظيمة حدثت, لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب, وجلس عليه. وكان منظره كالبرق, ولباسه أبيض كالثلج (الإنجيل بحسب متي28:1), في قاع الظلمة كان النور, ظهر الملاك ليعرف الجميع أن السيد قد قام من بين الأموات. إنها القيامة التي ردد بولس الرسول صداها مترنما: أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟ (رسالة الرسول بولس الأولي إلي أهل كورنثوس15:55).
لكن علينا أن نرجع خطوة للوراء لنري المشهد مكتملا. إذ يقدم لنا الكتاب المقدس حقيقة مهمة, أنه بسبب عدم طاعة الإنسان حدث انفصال بينه وبين الله, هذا الانفصال أدي إلي خسائر كبري في تاريخ الإنسانية, فلقد فقد الإنسان الاتصال المباشر مع الله وخرج خارج جنة عدن, بمعني أنه خرج خارج حضرة الله وفسد الإنسان بسبب الخطية, وأصبح مستعبدا لها, وكان ذلك قبل الفداء.
لكن أهم ملامح مرحلة ما بعد السقوط هو محدودية الإنسان في المعرفة ومحدوديته في الحياة, هذه المحدودية هي نتيجة طبيعية للانفصال عن الله, ومن هنا يأتي الإعلان الأول للمصالحة من خلال نداء الله للإنسان وهو خارج عدن واكتشاف أنه عار وبلا ستر وصنع أقمصة من جلد الحيوان لسترته, فدم الحيوان المسفوك هذا من أجل سترة الإنسان كان الرمز الأول لبناء الجسود مع الله. وهنا كان الإعلان الأول عن الحياة والتواصل مع الله من خلال الدم, فالدم هو رمز الحياة وأقمصة الجلد التي كانت للستر هي أيضا نتاج سفك دماء. لقد ذبح الحيوان وسفكت دماؤه ومن جلده صنع ستر للإنسان ليستطيع اللقاء والحديث مع الله (تكوين3:6, 21).
وتأتي الذبائح في العهد القديم كاستمرار لهذا المفهوم, حيث قدمت الذبائح للتكفير عن الخطايا وكذلك لبناء الجسور مع الله, فالذبائح منذ آدم وحتي مجيء السيد المسيح كانت تمثل رمزا واضحا لمنح الحياة من خلال غفران الخطايا وبناء الجسور مع الله.
وفي مجيء السيد المسيح, وحياته وموته وقيامته, قدم السيد نفسه ذبيحة حية, وبدمائه قدم حياة جديدة لكل الذين يؤمنون به, وبقيامته صنع جسرا جديدا للعلاقة مع الله, وهكذا فإن رمز الدم في ذبائح العهد القديم تحقق بالفعل لكي يبني جسرا جديدا بين البشر والله. هذه العملية ببساطة هي المصالحة مع الله.
في ذكري القيامة نتذكر أن أساس المصالحة في الكتاب المقدس هو إعادة بناء الجسور بين الإنسان وخالقه, هذه الجسور تأتي بالإنسان إلي علاقة جديدة مع الله, والتي من أهم ملامحها هو المعرفة الجديدة والحياة الأبدية لكن الكتاب المقدس يعلن بوضوح أن المصالحة مع الله تتطلب بعدين آخرين للمصالحة هما العلاقة مع الآخر والعلاقة مع الخليقة المحيطة.
إن المفهوم اللاهوتي للمصالحة لا يقف عند حدود العلاقة مع الله والبشر كما أشرت سابقا لكنه أيضا يمتد إلي العلاقة مع الخليقة, فلقد أعطي الله الإنسان قديما سلطة علي الخليقة تتمثل في إعطاء الخليقة أسماءها بمعني المشاركة في تحديد أهدافها وبناء رؤيتها ودورها في المستقبل, كذلك يعلن سفر التكوين عن سلطان الإنسان علي الخليقة (تك1:27-30), هذا السلطان ارتبط بالحياة فلم يكن سلطانا غاشما تدميريا لكنه ارتبط بحياة الإنسان, ومن هذا المنطلق فإن السيطرة علي الخليقة يجب أن تكون في إطار الحياة.
من خلال هذا الطرح اللاهوتي يمكننا القول إن المصالحة مع الخليقة بكل أبعادها هي في نفس إطار المصالحة مع الآخر البشري, ومن خلال المصالحة مع الله يتصالح الإنسان مع البشر والخليقة, هذه المصالحة التي تتجاوز الأخطاء إلي بناء الجسور هي التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية اليوم.
في عيد القيامة تأتي قضية المصالحة كمفهوم ضروري وحيوي وشامل للمستقبل. إن القراءة النقدية لعوامل الانقسام والاستعلاء وسوء الاستخدام يجب ألا تقف فقط عند التحليل والرصد لكنها يجب أن تتجاوز ذلك إلي بناء الجسور. هذه العملية من بناء الجسور هي جوهر المصالحة.
وفي ذكري القيامة نصلي أن يعم الخير والرخاء بلادنا, ويلهم الله قادتنا بحكمته, ويستقر سلام الله الذي يفوق كل عقل في قلوب كل المصريين.