منذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية, وما صاحبها من هستيريا العقوبات الأمريكية علي روسيا وانصياع المجموعة الأوروبية وراء تلك العقوبات, أخذ العالم يرقب ما تسفر عنه العقوبات من تغيير في التوازنات الاقتصادية العالمية ومدي سيطرة الدولار الأمريكي واليورو الأوروبي علي تلك الاقتصادات.. والحقيقة أن ما كشفته تطورات الحرب علي المستويات الاستراتيجية بعيدا عن مسرح المعارك العسكرية ينبئ بميلاد منظومة اقتصادية عالمية جديدة, منسلخة عن رحم الدولار واليورو, باتت تتشكل ملامحها باتحاد الصين وروسيا وراء استخدام اليوان الصيني كعملة بديلة عن الدولار في التجارة العالمية وهو ما أدي إلي انضمام مجموعة دول بريكس- البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا- إلي تلك المنظومة, وما تطور عنه ذلك من احتمالات انضمام دول أخري مثل السعودية ومصر وغيرها, بحيث تدرس دول تلك المجموعة إمكانية تفعيل عملة مشتركة فيما بينها وفي تعاملاتها بعيدا عن الدولار الأمريكي.
هذه التطورات حتما ستؤدي إلي ردود فعل ساخنة -إن لم تكن عصبية وهستيرية- من جانب الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية دفاعا عن عرش هيمنة الدولار واليورو علي اقتصاديات العالم, وتلك هي التداعيات التي تحتبس أنفاس العالم ترقبا لها في الفترة القصيرة المقبلة, فمن المسلم به أن لا الولايات المتحدة ولا المجموعة الأوروبية ستستسلم بسهولة للإطاحة بهيمنة عملاتها علي اقتصادات العالم وسوف تلجأ إلي كل ما في وسعها من وسائل سياسية واقتصادية وعسكرية إذا اقتضي الأمر للحفاظ علي سيطرتها دون السماح لأية عملات أخري لمزاحمتها هذه السيطرة… لكن الحقيقة المرة التي تعرفها أمريكا وتابعوها الأوروبيون قبل باقي دول العالم التي تسعي لوضع حد لهيمنة الدولار واليورو أن سياساتها الغاشمة علي المسرح الدولي وحساباتها الخاطئة في تأجيج الصراعات هي التي أدت إلي إفراز الحاجة الملحة نحو إيجاد بديل عن الدولار واليورو… وها هي ملامح ميلاد نظام دولي جديد وعملة عالمية جديدة تتشكل مهددة عرش الدولار الأمريكي ومن بعده اليورو الأوروبي.
لكن ما يتوجب توثيقه أن الدولار الأمريكي لم يفقد قيمته ويهتز عرشه فقط جراء السياسات الجامحة للإدارة الأمريكية في تأجيج الصراعات حول العالم, بل لأن أمريكا نفسها عبر أكثر من نصف قرن غامرت بقيمة الدولار وتلاعبت بالأصول التي استمد منها قوته بحيث بات عاريا مستباحا من قوي اقتصادية عظمي وافدة علي الساحة العالمية ومتمردة علي هيمنة الدولار وباحثة عن بديل قوي يحل محله ينقذها من مقصلته… فما هي قصة الدولار الأمريكي؟
** اتفاقية بريتون وودز التي أبرمت عام 1944 في أعقاب الحرب العالمية الثانية بإرادة الدول المنتصرة في الحرب جعلت الدولار الأمريكي هو المعيار النقدي لكل عملات العالم, حيث تعهدت أمريكا بموجب تلك الاتفاقية وأمام دول العالم بأنها تمتلك غطاء من الذهب يوازي ما تطرحه من دولارات, ونصت الاتفاقية علي أن من يسلم أمريكا 35 دولارا -في ذلك الوقت- تسلمه أمريكا أوقية من الذهب, والبنك المركزي الأمريكي يضمن ذلك.. حينها صار الدولار يطلق عليه عملة صعبة واكتسب ثقة دولية مستمدة من اطمئنان دول العالم لوجود غطاء له من الذهب.. فقامت تلك الدول بالعمل علي جمع أكبر حصيلة من الدولار الأمريكي في خزائنها رهانا علي القدرة علي تحويلها إلي ما يوازي قيمتها من الذهب في أي وقت, واستمر الوضع علي هذا المنوال حتي خرج الرئيس ريتشارد نيكسون في سبعينيات القرن الماضي ليصدم العالم بتصريحه أن الولايات المتحدة لن تسلم حاملي الدولار ما يقابله من ذهب, وليكتشف العالم أن الولايات المتحدة آخذة في طباعة بنكنوت الدولار دون وجود غطاء من الذهب لها, وهو ما يعني أنها تمتلك ثروات في كل العالم في مقابل دولاراتها المطبوعة التي لا تتجاوز قيمتها تكلفة طباعتها ولا يوجد لها غطاء من الذهب… وقتها أعلن نيكسون أن الدولار سيتم تعويمه وإخضاع قيمته لقوي العرض والطلب اعتمادا علي أن قوته مستمدة من سمعة أمريكا وقوة اقتصادها.
** لم تتمكن أية دولة من دول العالم في ذلك الوقت من الاعتراض أو الاحتجاج علي ما أعلنته أمريكا من نظام نقدي جديد لأن اعتراضها كان سيعني ببساطة أن كل ما في جعبتها من مليارات الدولارات وما تحتفظ به في خزائن بنوكها سيصبح ورقا بلا قيمة, الأمر الذي يمثل نتيجة كارثية لا قبل لها بها.. وتلك الحادثة أطلق عليها عالميا صدمة نيكسون التي خضعت لآلاف من الدراسات والتحليلات لكنها ظلت مغيبة عن الشعوب… وفي ذلك الحين ذهب وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر إلي السعودية وطلب منها أن من يريد أن يشتري نفطها عليه أن يدفع قيمته بالدولار, وانصاعت السعودية لذلك المطلب, وحينها قال نيكسون مقولته الشهيرة: يجب أن نلعب اللعبة كما صنعناها, ويجب أن يلعبها الآخرون كما وضعنا نحن قواعدها… ولايزال هذا النظام قائما حتي يومنا هذا, أمريكا تطبع ما تشاء من دولارات وتشتري بها احتياجاتها من مواد خام وبضائع جميع الشعوب.. الأمر الذي وصفه الرئيس الروسي بوتين بقوله: أمريكا تسرق العالم… فهل نشهد بزوغ فجر جديد لعملة تزيح الدولار الأمريكي؟