نشأته كانت حلم وسعى مؤسس المتحف القبطي لتحقيقه.. ليخلد إسمه في التاريخ ويطلق عليه “صانع التاريخ”.. ذكرى عطرة ومسيرة حافلة بالإنجازات في إنشاء المتحف القبطي ليجمع فيه كنوز من التراث القبطي ويطلقه أمام العالم أجمع.. جال في البلاد سعياً لتحقيق حلمه يجمع ويشتري كنوز من التراث القبطي.. إنه مرقس سميكة باشا (1864 – 1944م)..
في احتفالية ثقافية بذكرى تأسيس المتحف القبطي ال113، بتعاون بين إدارة المتحف القبطي وجمعية محبي التراث القبطي، تم افتتاح معرض “إرث الأجداد” من المقتنيات الأثرية بالمتحف التي تم إهداءها لمرقس سميكة باشا من أجدادنا المصريين، وكذلك افتتاح معرض للأيقونات القبطية من الفن الحديث لتشجيع الشباب الفنانين على تقديم المزيد من أعمالهم، وأيضا تم زيارة ورشة العمل الخاصة بالأطفال ذوي الهمم، بحضور اللواء المهندس أيمن السعيد رئيس حي مصر القديمة، والأستاذة تريزا مدير العلاقات العامة بحي مصر القديمة، والأستاذ أشرف ناجح مدير مركز البحوث العلمية، والأستاذة هبة حمدي المشرف على المتاحف الكبرى، والمهندس سامي متري رئيس جمعية محبي التراث القبطي، والسيدة رينيه يعقوب سكرتير عام جمعية محبي التراث القبطي، والدكتورة شذى إسماعيل أستاذة الفنون القبطية بكلية سياحة وفنادق في جامعة حلوان والأستاذة ناهد حليم مدير العلاقات العامة بمتحف الفن الإسلامي، والفنان شريف إسماعيل.
تاريخ المتحف ونضال مؤسسه
في بداية الحفل رحبت الأستاذة جيهان عاطف مديرة المتحف القبطي، بالحضور بمناسبة العيد ال ١١٣ على إنشاء المتحف القبطي على يد مرقس سميكة باشا.. وبدأ فريق العمل بالمتحف بتقديم محاضرة عن تاريخ المتحف وأسلوب بناؤه وتطور شكل المبني كلما زادت مساحته حتى ظهر التصميم العبقري للمهندس المعماري حينما أخذ فكرة واجهة الجامع الأقمر مع تغيير كل الرموز الإسلامية إلى رموز مسيحية مأخوذة من أشكال القطع الأثرية الموجودة بالمتحف مثل شكل الحجر العلوى بالمدخل يظهر عليه السيد المسيح داخل هالة ومن حوله اثنين من الملائكة وهو نفس شكل التكوين بكنيسة القديسة بربارة.
وعرض فيلم تسجيلي عن المتحف القبطي وتاريخ نشأته. وقدموا أيضا مقارنة بين طرق عرض الأثار في الجناح القديم والوضع الحالي من خلال صور أرشيفية قديمة وصور للرصد الحالي لرؤية نفس الأثار وتطوير عرضها، وكذلك تم توضيح مراحل توزيع القطع الأثرية في الجناح الجديد من المبنى الذي تم افتتاحه عام ١٩٤٧م
واستمر اهتمام الدولة بالمتحف القبطي، وتم تجديد وترميم المتحف عدة مرات أخرها عام ٢٠٠٦م حيث افتتح هذا الترميم الرئيس السابق محمد حسني مبارك.. وأهم ما حدث في هذا التاريخ كان إعادة سيناريو العرض للتحف الأثرية الموجودة بالمتحف وتم عمل ممر خشبي يصل بين الجناحين – القديم والجديد – لسهولة التجول في المتحف. وفي نهاية ٢٠٢١ وافق المجلس الأعلى للأثار باعتبار مبنى المتحف القبطي في عداد الأثار الاسلامية والقبطية واليهودية.
وخلال الندوة تم تقديم نبذة عن حياة مرقس سميكة باشا – مؤسس المتحف القبطي وأول مدير له، فمن يتتبع حياة ونضال سميكة باشا يمكن ان يطلق عليه “صانع التاريخ”.. وللتأكيد على تاريخ مرقس سميكة باشا ونضاله لاحياء هذا الصرح، تم وضع تمثال له في مدخل المتحف وقت افتتاح الجناح الثاني في عهد السنهوري باشا والبابا يوساب الثاني، يوم ٢١ فبراير عام ١٩٤٧م
وقدمت الندوة أيضا فقرة عن تاريخ وجهود مرقس سميكة باشا لجمع الأثار القبطية، فالقطع الأثرية دخلت المتحف عن طريق الإهداءات الشخصية أو عن طريق الشراء.. والتبرعات و الإهداءات لم تكن فقط بالقطع الأثرية لكنها أيضا كانت بأجزاء معمارية مثل المشربيات والأسقف الخشبية الجميلة الموجودة بالمتحف من الداخل وكذلك دواليب العرض..
أول مجموعة من القطع الأثرية التي تعتبر النواة الأولى لفكرة هذا المتحف، كانت قطع من الفضة منها غلاف إنجيل، اشتراها مرقس سميكة باشا، وكتب عنها في مذكراته أنه في يوم في شتاء 1909 كان في زيارة للبابا كيرلس الخامس بصفته وكيل المجلس المللي العام، وكان البابا معه أحد الصياغ وهو يقوم بوزن قطع أثرية من الفضة ويكتب توصيف كل قطعة وقيمتها ووزنها، فتفحص مرقس سميكة القطع الأثرية ووجد أنها قطع ثمينة جدا من القرن الخامس عشر والسادس عشر، فسأل البابا لماذا تباع تلك القطع الثمينة؟ وكان الرد أن هذه القطع أصبحت قديمة جدا وسنقوم بإعادة تصنيعها لعمل أواني جديدة للكنيسة، وكانت قيمة هذه القطع 180 جنيها وقتها.. وجاءت الفكرة لمرقس سميكة باشا أن تكون هذه القطع بمثابة النواة الأولى لتحقيق فكرته في عمل متحف للتراث القبطي وعرض على البابا أن يشتري هذه القطع ويدفع له المبلغ المطلوب واقترح على قداسة البابا أن يستخدم غرفة في الكنيسة المعلقة لعرض هذه المقتنيات الثمينة، ووافق البابا على الفكرة ودعمه وأوصى الأديرة والكنائس أن تعضد فكرة مرقس سميكة باشا بامداده ببعض القطع الأثرية لديهم.
وبعد الندوة جاءت فقرة كوٍرال مارمرقس الذي قدم باقة من الترانيم عن مصر وقدم النشيد الوطني المصري باللغة العربية واللغة القبطية وسط حضور كبير من زوار المتحف.. وكذلك قدم الأطفال من ذوي الهمم من مؤسسة رينيه لرعاية الفئات الخاصة، فقرة إنشاد ظهرت فيها بساطتهم وحبهم العميق لبلدهم..
جيهان عاطف: المتحف القبطي متحف فريد في العالم
وعلى هامش الاحتفالية، أجرت وطني حواراً مع الأستاذة جيهان عاطف مديرة المتحف القبطي، فقالت: إن المتحف القبطي يعتبر من المتاحف العريقة النوعية الكبرى والذي يختص بعرض الأثار القبطية على مستوى العالم. ونحتفل هذا العام بالذكرى ال113 على إنشاء هذا المتحف، حيث كانت فكرة العرض المتحفي للأثار القبطية في قلب مؤسسه مرقس سميكة باشا والذي عرض الفكرة على البابا كيرلس الخامس في ذلك الوقت، ورحب البابا كيرلس بفكرة إقامة مكان يجمع الأثار القبطية.
وبدأ مرقس سميكة في جمع المقتنيات التي كانت في متحف بولاق – المتحف المصري بالتحرير حالياً، ثم انتقلت في قاعة بالكنيسة المعلقة، وعندما زادت المقتنيات عن حجم الحجرة الموجودة بالكنيسة المعلقة، جاءت فكرة إنشاء متحف يضم هذه الأثار.
ورحب قداسة البابا كيرلس الخامس بفكرة إنشاء متحف وخصص الأرض التي مقام عليها المتحف الحالي، وكلف مرقس سميكة باشا لإنشاء المتحف. وبالجهود الذاتية من أعيان الأقباط في ذلك الوقت، تم إنشاء المتحف القبطي من دور واحد في منطقة الجناح القديم عام 1910م واستمر مرقس سميكة باشا في تجميع مقتنيات أكثر حتى أصبح المبنى مكدس مما استدعى الأمر لإنشاء جناح جديد وهو الذي تم افتتاحه عام 1947م – أي بعد وفاة مرقس سميكة باشا بثلاثة سنوات.
وتم ربط الجناحين بممر داخلي لتسهيل حركة الزائرين، وروعي في إنشاء الجناح الجديد أن يكون بنفس نمط الجناح القديم من حيث المشربيات والأسقف الخشبية وطرق عرض التحف والقطع الأثرية.
وأضافت مديرة المتحف أن الاحتفال بذكرى إنشاء المتحف أساساً تكريم لمرقس سميكة باشا على مجهودة ونضاله عبر سنين حياته لإتمام هذا الحلم الذي أصبح حقيقة فريدة على مستوى العالم بإنشاء متحف للأثار القبطية.
وأشارت جيهان أنه في هذا الاحتفال تم افتتاح معرض أثري بعنوان “إرث الأجداد” حيث تم عرض فيه مجموعة من الإهداءات التي قدمها الكثير من الأقباط وغير الأقباط من مقتنياتهم لمرقس سميكة باشا، لتكون أول نواة من الأثار التي بدأ بها هذا المتحف. تعددت هذه الهدايا وكونت ثروة وإرث من الأجداد وأصبح موجود في المتحف.. هذا الإرث وهذه الاهداءات لم تقتصر على أجدادنا المسيحييين فقط، بل وجدنا الكثير منها مقدم من المسلمين أيضا، وهذا يدل على حب وفهم واعي وتقدير كلمة أثر، وكيف يحافظ الناس على الأثار وتهديها للأماكن المخصصة لها.
ومن ناحية أخرى أوضحت أن المتحف مؤسسة تعليمية تثقيفية تربوية، وتشارك المجتمع من حولها في كل هذه القنوات، وبوجه عام قطاع المتاحف ككل يتشارك أيضا مع مؤسسات المجتمع المدني لعمل أنشطة متنوعة تخدم المجتمع المحيط.. ففي هذه الاحتفالية بمرور 113 عام على إنشاء المتحف القبطي، تم التعاون من جمعية محبي التراث القبطي، والتي لها نشاط اجتماعي كبير وتعمل على نشر الوعي بالتراث القبطي.
وأيضا من أقسام المتحف التي تخدم المجتمع المحيط، قسم التربية المتحفية الذي يجري أنشطة فنية لأطفال المدارس ودور الأيتام من الرسم والنحت والرسم على الخشب، ويعلم أيضا المرأة المعيلة من خلال ورش مثل ورشة تعليم فن الكروشيه والذي يساعدها لتحسين الحالة الاقتصادية لأسرتها.
وكذلك من أقسام المتحف قسم التربية المتحفية لذوي الاحتياجات الخاصة، ونراعي تقديم نفس الخدمات الفنية لدمجهم مع باقي المجتمع، وفي احتفال هذا العام قام هذا القسم بتعليم الأطفال من ذوي الهمم كيفية عمل تاج من الورق الملون عليه لوجو المتحف.
وفي نهاية كلامها معنا تكلمت جيهان عاطف عن الطموحات المستقبلية، مثل الارتقاء نحو الأفضل بمجهود جميع العاملين بالمتحف وعمل المزيد من الأنشطة، والسعي للتطوير المستمر في سيناريو العرض المتحفي. ويتحقق فعلياً كل ذلك بجهود قطاع المتاحف بوزارة السياحة والأثار لتوفير كل الإمكانيات والمساعدات.
معرض إرث الأجداد
وعن معرض “إرث الأجداد” الذي تم افتتاحه يوم الاحتفالية، أوضحت الأستاذة جانيت جاد الكريم أثرية بالمتحف ورئيسة قسم المعارض المؤقتة، أن هذا المعرض جاء ليواكب فكر الدولة للحفاظ على الأثار المصرية الأصيلة، وبهذا المعرض يحاول المتحف أن يقوم بدوره في التوعية الثقافية للمجتمع بتقديم مجموعة من المقتنيات التي تم إهدائها إلى المتحف القبطي من أفراد عبر السنوات، وهؤلاء كان لديهم الوعي أن المقتنيات الأثرية ليست ملكية شخصية ولكن مهم أن تكون متاحة للغير من أجل الوعي والثقافة وإدراك أهمية التراث القبطي. وهؤلاء اختاروا إهداء المتحف القبطي بكنوزهم إيماناً منهم بأهمية دور المتاحف في توعية المجتمع بالهوية والإنتماء.
وأشارت جانيت أن هذه المجموعات المهداه إلى المتحف من أفراد ولم تكن من مقتنيات الكنائس والأديرة كما هو مشاع، بل هي قطع مختلفة من الحياة اليومية من كل جوانب المجتمع المصري عبر العصور المختلفة.. وركزنا على أن يكون هذا المعرض به معروضات من الحياة الدينية والحياة اليومية. ومنها قطع من العملات عليها صورة الإمبراطور فيلانتيان وتم إهداءها للمتحف من الدكتور هنري أمين عوض، وأيضا نجد الختم الخشبي وعليه يظهر الملاك يمسك بإحدى يديه ميزان وأخرى سيف وهذا الختم معروف في التراث القبطي حيث يتم استخدامه في ختم القربان المقدس داخل الكنائس وأيضا الخذف وأواني الكنيسة، وقدمها للمتحف رؤوف صابر مشرقي. وهناك أيضا مخطوطات مميزة في المتحف القبطي منها مخطوط الأجبية وتم إهداءه من رؤوف فؤاد زكي عجمي، وكذلك مخطوط الجزء الثالث في “وقائع الدهور” ويشمل تاريخ مصر منذ عصور ما قبل التاريخ حتى 1522م ويبدأ بقصة الخلق وقصص الأنبياء وهو الأن مفتوح على جزء زيارة الإمام الشافعي ومشاركته في صلاة عيد الفطر وهو مهداه من عائلة شاروبيم بك.
وشرحت جانيت بعض المعروضات الأخرى منها قطعة التراكوتا على شكل حمامة إشارة للروح القدس مقدمها رؤوف صابر مشرقي، و قطعة خشبية أخرى ممثل عليها أحد الشهداء هي قطعة مميزة لأنها مهداه من الملك فؤاد للمتحف القبطي، والدولة أيضا كان لها دور في بداية المتحف القبطي بالمساعدات المادية وكذلك بالقطع الأثرية، ويقال أنه من أول المتبرعين بالقطع الأثرية لمرقس سميكة باشا كان الأمير حسين كامل الذي أصبح بعد ذلك السلطان حسين كامل.
وهناك أيضا مجموعة من الأحجار منها ما يمثل إبراهيم النبي عند ذبح إبنه إسحق لطاعة الله ومهداه من رجل أجنبي يدعى تانو.. وهذا يوقفنا على الوعي قديماً بأهمية عودة القطع الأثرية لموطنها الأصلي وهذا الذي نتمناه الأن، وأيضا قطعة حجرية يظهر بها شخص في وضع القرفصاء ويمسك عنقود عنب وحمامة في يديه وهي مهداه من ورثة كامل حمودة.
ومن مقتنيات المعرض أيضا أيقونة تمثل القديس بقطر ومهداه للمتحف من المرحوم ألفي بك، ويظهر أيضا تاج من البرونز المطلي بالذهب وكان هدية للبابا كيرلس الخامس من الملك نجاشي ملك الحبشة وأهداه للمتحف الأنبا يؤانس. ونجد صليب من البرونز مصنوعة قاعدته بشكل مخصص لوضعه على ألوية ليكون الصليب في مقدمة احتفالات الكنيسة وقدمته هدية للمتحف ليدي بتشانج.
ومن ناحية المقتنيات الخاصة بالحياة اليومية نجد قطع من الحرف اليدوية المختلفة منها قطعة صغيرة من الخشب على هيئة حشوة ويظهر فيها مدى براعة النجار الذي أبدع في شكلها وتفاصيلها فكان بارعا في الزخرفة وتطعيمها بالعاج وكانت مهداه من شخص يدعى محمد حسن، ويوجد أيضا قطعة خشبية على شكل مشط مهداه للمتحف من محمد أدم، ونجد أيضا من الخوص مجموعة من السلات الملونة مهداه من ليدي باتشانج، وكذلك نجد مثقالين ميزان تم عرضهما لتوضيح التعاملات التجارية في ذلك الوقت ونجد في هذه رغم صغر المثقال إلا أن الفنان القبطي أبدع في النقوش الدينية والهندسية عليها، وهذه المجموعة كانت إهداء من دكتور هنري أمين عوض.
وانتهى اليوم بعد جو من البهجة والاستمتاع بعبق التاريخ والسيرة العطرة لمرقس سميكة باشا، وحضر جموع زوار المتحف من المصريين بمختلف فئاتهم المجتمعية وأعمارهم وكذلك الزوار الأجانب كل فقرات اليوم والتقطوا الصور وتجولوا بين إرث الأجداد.