إن موسيقَى اللحن موضوعة بعناية وبصورة فلسفية عميقة، لتعبرعن فكرة التضاد مابين النور والظلمة الموجودة في نبوءة إشعياء النبي، فقد قَسَّمَ المُلَحِّن لحنه إلى فكرتين متضادتين، في قالِب موسيقي يُسمى “روندو” ومعناها (دائري)، ويكون كالآتي: فكرة موسيقية أولى (A1)، ثم فكرة موسيقية ثانية (B1)، ثم يرجع إلى الفكرة الأولى مرة أخرى (A2)، وينتقل مرة أخرى إلى الفكرة الثانية (B2)، ثم يرجع للفكرة الأولى (A3)، فَيُحَقِّق بذلك صورة القالِب الدائري (وهذا متناسب مع فكرة الدوران حول المذبح)، ثم يستكمل بأفكار أخرى يُنهِي بها اللحن في باقي المعاني، وهذا ما سوف أشرحه بالتفصيل.
“تي جاليليئا” (جليلو) (A1) (دقيقة 0:03- 2:12)
يبدأ لحن تي جاليليئا بنغمات هابطة كنزول الابن المتجسد للأرض ليعطي السلام ويُشرِق بنور البرعلى البشر،الجالسين في ظلمة الخطية والجَهل فيُطَهِّرهم، ثم يبدأ الفكرة من مقام العجم ليعطى أجواء الاتساع والانتشار والإشراق، فهوذا الله الكلمة ينادي ببشارة الملكوت ويدعو الجميع للتوبة، ثم يستكمل الفكرة الموسيقية بمقام البياتي الذي خصصته الكنيسة للتعبير عن الطقس الفرايحي.
أما منطقة الجليل (زبولون ونفتالي) فقد اختارها رب المجد ليسكن فيها أكثر فترات عمره على الأرض، وهذا الشعب ينتمي إسميا إلى شعب الله، ولكن أفعالَهم وأفكارَهم أخذت من الأمم التي حولهم تقاليدَهم ومعتقاداتِهم وخطاياهم، فجاء المسيح ليُنير حياتَهم ويدعوهم للتوبة وبشارة الملكوت، فيصبحوا مثلاً لكل إنسان مُشَتَّت يحتاج المسيح ليُنِير عليه ظلمته؛ ولذلك فقد اختيرت الفكرة الأولى (A1) بإحساس الفرح، ويوضحها هنا كثرة الزخارف اللحنية، والتصاعد النغمي والإيقاع المبهج الذي يُعَبِّر عن فرحة الشعب الذي أنار له المسيح حياته وسط الظلام.
“إنتى ني إثنوس” (الأمم) (B1) (ق 2:13- 3:45)
إن المُلَحِّن لهذا اللحن العميق خصص الفكرة الثانية لكلمة (الأمم)، وأعطى لها إحساساً آخر، وهو لمسة الشجن أو الحزن، ليُعَبِّرعن حالة الأمم التي عاشت في الظلام والوثنية، وهم ليسوا من شعب الله بل رافضون الله ومنغمسون في الشرور والخطايا، وإن كان في هذه الفكرة بدأ التحول التدريجي من إحساس الفرح إلى لمسات الشجن ليَمُر على مقام آخر وهو الراست، وتتميز هذه الفكرة بخصائص أخرى تَقِل فيها الحِليات والزخارف،وتمتد النغمات بصورة واضحة، وتَميل الجُمَل اللحنية إلى الهبوط النغمي، كما إستغل داخل الفكرة الأسلوب المتحرر من الإيقاع “أدليب” في جزء معين، كل هذا ليُعطى أجواء الشجن، كذلك أنهى الفكرة بركوز غريب (مي سيكة) الدرجة الثالثة في المقام تعبيراًعن الغُربة وعن معنى الحسرة على حالة الأمم الوثنية.
“ني إتهيمسي” (الجالسون) (A2) (ق 3:46- 5:48)
لقد كان المُلَحِّن مُوَفَّق أيضا في اختياره لهذه الكلمة ليُعَبِّرعن نفس الفكرة الموسيقية الأولى التي نسميها هنا (A2)، فهم جالسون في الظلمة وهو تكرار للفكرة السابقة (جليلو) أي شعب الجليل.
“خين إبكاكي” (في الظلمة) (B2) (ق 5:49- 7:20)
وهي نفس الفكرة التي استُخدِمَت لكلمة (الأمم)، وهذا توافق في المعنى، فالظلمة في الحياة الروحية هم الشيطان وأجناد الشر الروحية، وهي الخطية والبعد عن الله والموت الروحي، فأُخِذَت نفس الفكرة هنا (الظلمة) حيث أن الأمم هم مسكن الشيطان حيث العبادات الوثنية ومصدر الخطية.
“نيم إتخيفي” (وظِلال) (A3) (ق 7:21- 9:26)
ثم رجع للفكرة الأولى مرة أخرى، ولكنه الآن مع كلمة جديدة وهي (ظلال)، فشعب الله الذي أنارعليه المسيح كان جالساًفي ظلال الموت أي أنه على حافة الموت، الفترة التي مر فيها بالجهل وأُغوِىَ بعبادة الأوثان مع عبادة الله، ولكن الله أنعم عليه بالرحمة وغفران الخطية، عندما تاب وآمن بالمسيح وتغيرت عاداته.
“إمفمو” (الموت) (C) (ق 9:27- 10:22)
وهنا انطلق في فكرة جديدة بدأها بأول جُملَتَين من الفكرة الثانية (B)، وهذا طبيعي لأنه سيتكلم عن (الموت)،فاسترسل في جُمَل موسيقية أخرى ليُعَبِّر عن الموت، وهنا وقفت النغمات وأصبحت أكثر حسماً وخشونة وامتداداً،وصارت تميل إلى الهبوط النغمي، والنغمات يُغَلِّفها إيقاع بنبضات واضحة، تعبيراً عن دقات الجحيم، وتحذيراً لكل من يستسلم للشيطان أو يصير مثل الأمم فمصيره الهلاك الأبدي.
“أو نيشتي إن أووأويني أفشاي نوؤو” (نور عظيم أشرق عليهم) (D) (ق 10:23- 11:31)
وهنا سريعاً أخذنا المُلَحِّن الكنسي العبقري إلى الفرحة والنور والإشراق والأمل، لينهي المشهد السابق المُظلِم الحزين، مثلما أنهي إشعياء النبي أقواله الحزينة في الإصحاح الثامن، ليبدأ بلمسة إشراق ونور وأمل في إصحاحه التاسع، فعند كلمتي “أونيشتي” (عظيم) و”أووأويني” (نور) قفز بالنغمات ليُعَبِّر عن عِظَم جلال نورالمسيح، بينما في الفكرة السابقة هبط إلى أكثر نغمة غليظة ليُعَبِّر عن الموت، وهنا في الفكرة الجديدة استَقَرَّعلى نغمة جديدة بها إحساس التعطش والاشتياق إلى مجييء المخلص الذي ينير الحياة ويغلب الموت والشيطان والجحيم،
أما كلمة “أفشاي” (ق 10:49) فقد تعامل معها الملحن بوعي وذكاء ليُبَيِّن بامتداد النغمات فكرة إنتشار الضوء،مثل أشعة الشمس حينما تُشرِق باتساعها في الأفق لترسل أشعتها الدافئة إلى أرجاء المسكونة، مثل ابن الله المتجسد الذي نزل من سماه ليُشرِق بخلاصه على كل البشر.
الجزء الأخير بأسلوب الدمج (E1, E2, E3, E4, E5, E6) (ق 11:32- 14:41)
ثم يستكمل اللحن بفكرة عبارة عن أربع جُمَل لحنية في صيغة سؤال وجواب، وتكرر سِت مرات، على وزن رباعي بإيقاع سريع من مقام البياتي للتعبيرعن الطقس الفرايحي.
وموضوع هذه الأرباع يتكلم عن تجسد المسيح من العذراء لأجل خلاصنا، والدعوة للتهليل والابتهاج لهذا السِرِالعظيم، فالله الذي لا يَحُده مكان ولا يُرَ