اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية -أو بالأحري اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا- في 24فبراير 2022, وبينما كان يتوقع العالم أن استمرارها لن يتجاوز أسابيع معدودة حتي تحقق أهدافها الاستراتيجية نحو تأمين الحدود الروسية ضد التغول الأمريكي/ الأوروبي وزحف نفوذ حلف شمال الأطلنطي ناتو, إلا أن الأحداث تداعت وظهر الوجه القبيح للطرف المخطط والمؤجج لتلك الحرب وهو أمريكا وتوابعها من المجموعة الأوروبية الذين لم يخفوا نواياهم لاستدراج روسيا في براثن صراع عسكري طويل الأمد بغية إنهاكها عسكريا واقتصاديا, والحيلولة دون تطلعها -مع الصين- إلي المشاركة في قيادة العالم ومناطحة انفراد أمريكا بالقيادة.
هذا هو السيناريو البغيض الذي عايشه وتابع تفاصيله العالم عبر عام كامل حتي 24 فبراير الماضي, وها هو يستمر مستعرا دون بارقة أمل في انحساره أو جلوس أطرافه علي مائدة المفاوضات لإنهائه, وذلك لأن التصريحات الأمريكية المتعجرفة والتي زجت بأوكرانيا في حرب مدمرة مهلكة بالوكالة عنها ماتزال تردد: ينبغي أن تخسر روسيا الحرب ولا يمكن أن تخرج منتصرة بأي حال من الأحوال… وعلي الجانب الآخر تصر روسيا علي أنها لن تخسر الحرب أبدا حتي إن اقتضي الأمر استخدام الأسلحة النووية وإهلاك جميع الأطراف… وفي ضوء هذا الواقع المشئوم, وجه الرئيس الروسي بوتين خطابه إلي الشعب الروسي في 21 فبراير الماضي متضمنا محورين أساسيين هما:
* تقييم أحداث المعارك من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية خلال العام المنصرم والرؤية المستقبلية لها.
* كشف حساب أحوال الجبهة الداخلية الروسية, علاوة علي القطاعات التي استولت عليها روسيا من أوكرانيا, والتي اقترع سكانها علي الانضمام لروسيا, وذلك من الجوانب الاقتصادية والتنموية والاستثمارية لطمأنة الشعب الروسي وأهل تلك المناطق علي استقرار الأوضاع وخضوعها لخطط واسعة للتطوير.
وباعتبار المحور الثاني يهم الشعب الروسي ويرتبط مباشرة بالأوضاع الداخلية لحياته ومستقبله, سوف أتجاوز عن عرضه وسأكتفي هنا بعرض الملامح الرئيسية لخطاب بوتين فيما يخص المحور الأول, وهي كما يلي وفقا لنص خطابه:
** يأتي خطابي الرئاسي هذا في وقت صعب للغاية تمر به بلادنا, وقت يشهد فيه العالم تغييرات أساسية لا رجعة فيها وتداعيات تاريخية سيتحدد علي أساسها مستقبل شعبنا. إنه وقت يتحمل فيه كل منا مسئولية هائلة… كلكم تتذكرون أنه منذ عام مضي ومن أجل حماية شعبنا وضمان الأمن لبلادنا وحدودنا واستئصال التهديد الماثل ضدنا من النظام الـنيو-نازي الذي يحكم أوكرانيا عقب انقلاب عام 2014, قررنا إجراء عملية عسكرية خاصة لتقويض كل تلك التهديدات والتي شملت منذ 2014 إقليم دونباس في شرق أوكرانيا والمتاخم لحدودنا والذي تعرض شعبه ذو الأصول الروسية لسلسلة وحشية من الاضطهادات من جانب النظام الحاكم… وقد حاولت روسيا علاج هذا الأمر بالوسائل السلمية دون جدوي, ولا غرابة في ذلك إذ تبين لنا أن وعود القادة في الغرب وتأكيداتهم بضمان السلام في إقليم دونباس ليست سوي كذبة مخلة للتستر علي ضلوعهم في غض البصر عن الأعمال الإرهابية التي يمارسها نظام كييف ضد سكان الإقليم, علاوة علي إعداد المسرح للعمليات العسكرية عن طريق إمداد أوكرانيا بأنظمة تسليح متطورة مع تدريب قواتها المسلحة في قواعد ناتو توطئة لتفجير المعارك العسكرية معنا.
** في مقابل كل ذلك لم تتوقف روسيا عن محاولة احتواء الحرب والسعي نحو السلام, فبينما ندافع عن مصالحنا القومية نظل نؤمن بأن في عالم اليوم لا يمكن أن تظل هناك تفرقة بين ما يطلقون عليه العالم المتحضر وبين ما يطلقون عليه باقي العالم.. وأن هناك حاجة ماسة لخلق شراكة محترمة ترفض التمييز وتفتح الباب للحوار البناء بيننا وبين الغرب بهدف الاستقرار علي نظام أمني موحد للجميع.. ولكن للأسف كان رد الفعل الغربي يتسم بالمراوغة والمواربة في الوقت الذي لم يتوقف تمدد حلف ناتو وقواعده العسكرية في اتجاه حدودنا متجاهلا ما يمثله ذلك من تهديد سافر لأمننا القومي… حاولنا ذلك حتي ديسمبر 2021 حين تقدمنا للولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلنطي ناتو رسميا بمسودة اتفاقية للضمانات الأمنية بيننا, وكان رد الفعل أنهم رفضوا جميع النقاط الأساسية التي تضمنتها الاتفاقية, حيث تبين لنا بعد ذلك أن النية كانت معدة لتطبيق الخطط الاستفزازية والهجومية التي أعدوها ضدنا, عن طريق إطلاق عملية عسكرية دموية ضد إقليم دونباس في فبراير 2022.
** إننا في حربنا هذه إنما ندافع عن الحياة الإنسانية في بلادنا والمناطق التابعة, بينما القوي الغربية تسعي للسيطرة المطلقة, ولا أدل علي ذلك من المفارقة الصادمة بين إنفاق تلك القوي الغربية أكثر من 150 بليون دولار علي تسليح نظام كييف في مقابل تقديم دول مجموعة السبع 60 بليون دولار للدول الفقيرة في العالم خلال 2021/2020 (!!) إن ذلك يفضح أن الهدف أبعد ما يكون عن إغاثة الفقراء أو حماية المناخ أو تمويل التنمية, إن الهدف الحقيقي هو ضخ المزيد من الأموال لتأجيج الصراعات والانقلابات والحروب حول العالم.
** نحن لسنا في حرب ضد شعب أوكرانيا, إن شعب أوكرانيا تم اتخاذه رهينة لنظام الحكم في كييف والمتسلطين عليه من القوي الغربية سياسيا واقتصاديا وعسكريا حتي تمكنوا من تدمير الصناعة في أوكرانيا واستنزاف مواردها الطبيعية وخلفوا وراءهم قدرا هائلا من التردي الاجتماعي والفقر وعدم المساواة… الواقع المحزن الذي فضحته تلك الممارسات أن لا أحد كان يكترث بما يحيق بالشعب, بل تركوه للمذابح وللتصفية العرقية. الأمر المشين من جراء كل ذلك أن نظام الحكم في كييف لا يخدم مصالح الشعب الأوكراني, بل مصالح القوي الغربية التي تستخدمه في حرب بالوكالة ضد روسيا.
** الآن القوي الغربية تفصح بكل وضوح عن أهدافها وهي الهزيمة الاستراتيجية لروسيا وذلك يعني أن النية مبيتة لتحويل صراع محدود بين روسيا وأوكرانيا إلي مواجهة عالمية, وذلك لا يترك لنا الخيار إذ أنه يمثل تحديا وجوديا لبلادنا وتهديدا لحضارتنا. ودعوني في هذا الصدد أتوجه إلي شعوب دونتسك ولوجانسكك وزابوروجي وخيرسون الذين قرروا مستقبلهم في الاستفتاءات التي رسخت اختياراتهم للانضمام إلي روسيا هربا من عنف التهديد والقمع الذي يتعرضون له من جانب حكم كييف… إنكم انضممتم إلي روسيا الأم وسوف تبقون كذلك.
** وحول التطورات الأخيرة علي الجبهتين السياسية والعسكرية دعوني أقول لكم إن في بداية فبراير من هذا العام صدر بيان عن حلف ناتو يطلب من روسيا العودة لتطبيق معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية وبما يتضمن السماح للمراقبين الدوليين بالتفتيش علي منشآتنا النووية… وبالأخذ في الاعتبار أن دول مجموعة ناتو لا تسمح لروسيا بموجب تلك المعاهدة للتفتيش علي منشآتها المماثلة, علاوة علي استمرار المجموعة في تسليح نظام الحكم في كييف بأسلحة هجومية موجهة ضد قواعدنا, فإن الطلب الذي ينطوي عليه ذلك البيان يعد سخيفا ومرفوضا بجميع المقاييس… بل إنني في مقابل تردي الأوضاع السياسية والعسكرية في حربنا هذه قمت بتوقيع قرار يتم بموجبه وضع سائر الأنظمة الاستراتيجية في قواعدنا في حالة التأهب القصوي.
** لا يخفي علي أحد أن تشدق الولايات المتحدة وتوابعها الأوروبيين بالذود عن الحريات وحقوق الإنسان والسلام العالمي هو أمر يضحك الثكالي, لأن مقصدهم المفضوح هو عمل كل ما في وسعهم لتأمين استئثار الولايات المتحدة بالقيادة المنفردة للعالم دون أي شريك, مهدرين بذلك ما تأسس في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاقيتي يالتا وبوتسدام لتنظيم العلاقات الدولية.. ولكن ما تحاوله الولايات المتحدة للجلوس علي قمة العالم وحدها هو أمر غير مقبول من جانبنا.
** اليوم أعلن تعليق روسيا لعضويتها في اتفاقية ستارت للحد من الأسلحة الاستراتيجية, وعودتنا مرهونة بالكشف عن خطط دول ناتو وخاصة بريطانيا وفرنسا في هذا الإطار, ومدي السماح لروسيا بتفتيش ترساناتهما… وليتوقف الجميع عن الادعاء بأنهم أبطال للسلام والوفاق, لأننا نعرف الحقيقة ولم يعد في الإمكان خداعنا… روسيا تقف كأمة واحدة متحدة في مواجهة تحدياتها, واثقة في قوتها وقدرتها لأن الحق معها.