تأتي الذكرى الحادية عشر لنياحة البابا شنودة الثالث، البطريرك ال ١١٧ في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية، يوم ١٧ مارس والتي تتواكب مع أعظم أيام السنة وهي الصوم الأربعيني .. ستظل حياته الروحية مشرقة في تاريخ الكنيسة.. ومدرسة كبرى لها فلسفتها الكنسية، حيث تربى على يديه أجيال كثيرة من الرهبان والأساقفة والآباء الكهنة.
كان المتنيح البابا شنودة رجل التعليم .. الذي تتلمذ على تعاليمه أجيال كخدام للكنيسة من خلال اللقاء الروحي كل أسبوع منذ أن كان أسقفا للتعليم وحتى نياحته، فكانت كلماته ومؤلفاته الروحية والشعرية لها أكبر الأثر في نفوس وحياة شباب وشابات الكنيسة الأرثوذكسية.
وقداسة البابا شنودة كان موسوعة ثقافية وروحية بمعنى الكلمة، وذلك لدراسته الجامعية للتاريخ الوطني والكنسي، وكثيرا ما درس وقرأ في مجالات عديدة ..وتأثر بحضاراته الفرعونية والقبطية وحتى الإسلامية، وظهر ذكاؤه وموهبته التي منحها له الله في قيادته للكنيسة بشجاعة وصدق وجرأة في الرأي، ومثال نادرا للفكر والتواضع والوفاء، حيث عطاؤه المؤثر للأرض التي أنجبته، ومن أقواله المشهورة “مصر ليست وطن نعيش فيه.. بل وطن يعيش فينا”.
جاء البابا شنودة في حقبة مهمة في تاريخنا المعاصر حيث كان علامة مضيئة في العالم العربي والغربي بقيمته الأخلاقية وقامته الفكرية . فهو منارة ظلت تشع بضوئها لنحو أكثر من نصف قرن دون كلل. فقد صنع له تاريخ، ولم يصنعه التاريخ، كان مملوءا من الروح القدس ، الذي أمده بالقوة والحكمة والمعرفة.
ترك لنا البابا شنودة قيمة واضحة في واقعنا الإجتماعي والأخلاقي والروحي ، وكان واحد من القمم في مصر جعلته يدخل القلوب في كل بلاد العالم، ولقب ببابا العرب. وأدى بمواهبه وحبه لكل الناس رسالته الروحية وواجبه لوطنه ومواطنيه على أحسن وجه بكل إخلاص وأمانة، علم وشرح العلوم اللاهوتية ببساطة وعمق، ورسالة الكتاب المقدس، وحافظ على الشعلة المقدسة لكنيستنا القبطية الأرثوذكسية.
إلى جانب تسجيله تأملات روحية سامية وعميقة.. سواء في الكتب أو دواوين الشعر، فدعم الإيمان القلبي بالإقتناع العقلي بمقالاته وعظاته الروحية.. وصلاته من أجل الكنيسة ، بل عاشها وراح يجول بين ربوع مصر وأفريقيا والعالم، فكان بابا المسكونة كلها.. يكتشف روادها وطلائعها من صغار وكبار.. وما تركه من أثر في مجالات بناء الكنائس والأديرة.. وإهتمامه بالتربية الروحية والفنية والثقافية (معلم التنوير)، ورسالته الفكرية والروحية التي ينمي بها أبناء وبنات الكنيسة في كل الأجيال، ومعنى الإنسانية التي مثلها بالحب والصدق والتواضع والوفاء.
والبابا شنودة كان شديد الملاحظة في كيفية وضع كل أيقونة في مكانها بالكنيسة حسب العقيدة الأرثوذكسية والتي تدشن بزيت الميرون المقدس، فأيقونة القديسة العذراء مريم مع الطفل توضع على يمين أيقونة السيد المسيح لأنه مكتوب: “تجلس الملكة عن يمين الملك”. وكذلك أيقونة يوحنا المعمدان وهو يعمد الرب يسوع توضع على شمال أيقونة السيد المسيح، وهكذا رتبت الكنيسة كل الصور والأيقونات المناسبة للذكريات المقدسة لمخلصنا الصالح وأيضاً أيقونات الملائكة والقديسين لتكون تذكاراً لهم، لتوضح حكمة الكنيسة في وجود الأيقونات فيها وفائدة ذلك روحياً.
وكان متذوقاً للفن الديني حسب العقيدة الأرثوذكسية، فدفع بالموهوبين سواء رجال أو سيدات إلى مزاولة الفنون كالرسم والمشغولات والنحت والموسيقى، وإعتنى بنشر الألحان الكنسية القبطية مع النشاطات الشبابية من روحية وثقافية ورياضية. فكان راعياً قلما يجود الزمان بمثله إذ سيظل منارة شامخة في تاريخ الكنيسة.
كانت روحه ثرية فكان يبتسم لأي صعاب وكان يصلي بكل إهتمام، والرب يحل له كل المشاكل.. ومن أقواله “ضع الله بينك وبين الضيقة، فالضيقة تنتهي ويرتفع اسم مجد الله”، كل شيء يحل بالصلاة والصوم نقل روح الكتاب المقدس لشعبه في تصرفه وأعماله. وبذلك عاش بكل أقواله، وكان ذهنه حاضر لآخر لحظة، ولا يشتكي بالتعب ولا يبخل على أحد في أي وقت، وكان دائم السؤال على المريض والفقير.
سيظل البابا شنودة لمن عرفوه سيرة طيبة بقيمته الأخلاقية وقامته الفكرية ،حيث كان علامة مضيئة في العالم العربي والغربي ويمثل منارة ظلت تشع بضوئها لنحو أكثر من نصف قرن دون كلل.
ترك لنا قداسة البابا شنودة بصمة في واقعنا الاجتماعي والأخلاقي والروحي وكان واحداً من القمم وستبقى بصماته واضحة على الطريق الصحيح. وستظل أيقونته حية تضيء في قلوبنا، صلاته تكون معنا. آمين.