كانت مصر في الخمسينيات والستينيات, حتي أوائل السبعينيات تحتشد بصالونات الثقافة والندوات الأسبوعية, ولعل أشهرها صالون العقاد والذي كان يعقد أسبوعيا في منزل المرحوم الأستاذ عباس العقاد في ضاحية مصر الجديدة.
ولقد فرد لنا ذكريات هذا الصالون الكاتب المرحوم أنيس منصور, وكذلك ندوة وصالون إحسان عبدالقدوس في مؤسسة روزاليوسف وغيرهم من أساتذة الرأي والفكر والتنوير في مصر علي سبيل الذكر وليس الحصر, صالون محمود فوزي, وصالون مي زيادة وغيرهم.
وكانت قصور الثقافة التي أنشأها العظيم الدكتور ثروت عكاشة في جميع أرجاء مصر, قري ونجوع ومراكز ومدن بعدد 495 بيت ثقافة حسب حصرنا لها في عهد الأستاذ الدكتور أحمد نوار وهو علي رأس هيئة قصور الثقافة.
كانت هذه القصور هي ملتقي الشباب والنخبة في مصر, ولقد قدمت هذه القصور عباقرة في الأدب والشعر والفنون التشكيلية, والغناء الموسيقي, وأيضا مناقشات فكرية كانت تغذي الحركة الثقافية والسياسية في مصر, هكذا كانت مصر, وهكذا كانت عواصمها (القاهرة والإسكندرية والمنيا وبورسعيد والسويس وغيرهم) من مدن كبري. كل هذه الأنشطة الحياتية في مصر, كان وراءها فكر وأصحاب رأي ورؤية أيضا.
ولعل دار الأوبرا المصرية في عصر د.إيناس عبدالدايم, وزيرة الثقافة السابقة, قد سنت سنة حميدة بأن قدمت من خلال المسرح الصغير والكبير وأيضا مسرح النافورة المكشوف مجموعة من الندوات وأيضا الحفلات التي قدمت من خلالها مطربين ومطربات مصريين وعرب, وكذلك فرق موسيقية مصرية, وعالمية, فكانت متنفسا ثقافيا محترما, وكانت تلك الأنشطة الثقافية بتبادل مواقع احتفالاتها ما بين القاهرة والإسكندرية مسرح سيد درويش والمنصورة قصر ثقافة المنصورة, ووصلت إلي قصور ثقافة في صعيد مصر مثل بني مر (أسيوط), والعديديات (أسوان), الروديسية (كوم إمبو), وحوض الرمال (الأقصر), وغيرهم.
وفي السنوات الأخيرة كانت هناك طفرات ثقافية رائعة, مثل افتتاح طريق الكباش في الأقصر, ونقل الملوك والملكات الفراعنة من مقرهم في المتحف المصري (ميدان التحرير) إلي متحف الحضارة بعين الصيرة, هذا المكان العبقري الذي أنشئ في عصر (فاروق حسني) وزير الثقافة الأسبق, وعاونه في اختيار هذا المكان المرموق وسط القاهرة (مصر القديمة) أيضا الدكتور (أحمد نوار) وهو علي رأس المتاحف المصرية, والعناية بمتاحف الأقاليم مثل (متحف الأقصر) ومتحف (الوادي الجديد والخارجة) وغيرهم.
إلا أن مشهد موكب المومياوات الملكية من التحرير إلي مقره الأخير بمتحف الحضارة, كان مشهدا مشهودا للعالم كله, تم إخراجه وكأن مصر قد عاد لها شبابها وروحها الجميلة, وكانت تلك الأمسية التي تسيدها ملوك مصر القدامي وموسيقي العبقري نادر عباسي مع الفنانة الشابة الرائعة هبة سليم التي تغنت باللغة القبطية القديمة لا يمكن أن يضيع من خيالنا أو ذاكرة الوطن مثل هذه الأحداث.
إلي أن ظهر أخيرا شاب رائع وهو الدكتور أحمد غنيم متوليا إدارة متحف الحضارة, فإذ به ينشئ نقطة ضوء باهرة, فخلال عدة أشهر استطاع هذا الشاب أن يجمع في صالون متحف الحضارة كل نخب المثقفين المصريين, فقدم من صالون المتحف وقاعة احتفالاته الصغيرة جدا في سعته, والعظيمة جدا في قيمته, مجموعة من الأنشطة الثقافية علي سبيل الذكر وليس الحصر احتفالية توت عنخ آمون (العرض الأخير) عقب علي هذا الفيلم المتفرد الدكتور زاهي حواس والذي أعطي هذه الأمسية مذاقا مصريا خاصا وكان ذلك بالتعاون مع المركز الثقافي الإيطالي والسفارة الإيطالية في القاهرة وهذا الفيلم من إخراج الفنان الإيطالي ERNESTO PAGANO.
وأعقب تلك الدعوة دعوة أخري تحت عنوان (الهارب يجمع الشعوب) مع العازف الأول في العالم السويسري (ألكسندر بولداتشيف) وعازفتنا الموهوبة الرائعة المصرية (منال محيي الدين) وإذ بمفاجأة أخري بتقديم نعيم وديع الصافي كي يتغني (عظيمة يا مصر يا أرض النعم).
وأخيرا يدعونا إلي أن نعيش ساعة مع العظيم الفنان المصري والعالمي يحيي خليل (تحت عنوان إيقاع الروح).
لقد استطاع دكتور أحمد غنيم أن يعيد لليالي القاهرة ضوءا ساطعا من الثقافة المفتقدة في وجود وحضور متميز من مدعوين من النخبة المصرية المثقفة وسياسيين وقضاة ومحبي التاريخ المصري هنيئا لنا بمتحف الحضارة وصالونه الثقافي.
[email protected]