يعلمنا السيد المسيح قائلا: ليكن كلامكم نعم نعم, ولا لا, وما زاد علي ذلك فهو من الشرير (متي 5:37).
هناك لوحة شهيرة تدعي: الحقيقة العارية أو الحقيقة تخرج من البئر للفنان جان ليون جيروم رسمها عام 1896, والتي انتشرت في القرن التاسع عشر, تحكي هذه اللوحة عن أسطورة الحقيقة والكذب عندما تقابلا يوما, فقال الكذب للحقيقة: ما أجمل الطقس في هذا الصباح!, فنظرت الحقيقة حولها في شك, ورفعت عينيها نحو السماء, فوجدت أن الشمس مشرقة والجو جميل, فقررت أن تقضي اليوم في نزهة مع الكذب! ثم عاد الكذب ليقول للحقيقة: إن مياه البئر صافية ودافئة, فهيا بنا نستحم فنظرت الحقيقة للكذب في شك للمرة الثانية, ثم لمست المياه فوجدتها دافئة وصافية بالفعل, فخلع الاثنان ملابسهما ونزلا للاستحمام! وإذ فجأة, خرج الكذب من البئر سريعا وارتدي ثوب الحقيقة, راكضا بعيدا حتي اختفي عن الأنظار فخرجت الحقيقة من البئر عارية وغاضبة, وقامت بعدة محاولات للحاق بالكذب في كل الأماكن بحثا عن ثوبها, فلما رآها الناس عارية, أشاحوا بوجوههم في غضب واستهجان منزعجين منها.
واضطرت الحقيقة المسكينة إلي الرجوع للبئر لتتواري عن الأنظار, ولم تظهر مرة أخري من شدة خجلها.
ومنذ ذلك الحين والكذب يسافر حول العالم مرتديا ثوب الحقيقة ويلبي أغراض المجتمع وينال قبول الناس, بينما يرفضون هؤلاء روية الحقيقة العارية.
هذه الأسطورة تفضح لنا الواقع الأليم الذي نعيشه كل يوم, حتي أننا نكتشف الكذب في مختلف المجالات والمواقف والمعاملات مع الناس بصورة لا حصر لها, مما يدفعنا إلي الشك كل حين في كل من نتقابل معهم.
كم من الصداقات واللقاءات يغلفها الكذب, وتختفي عنها الحقيقة؟ كم من المشاريع التجارية والدعاية لا صلة لها بالصدق والشفافية؟ لماذا يكذب الكثيرون؟ هل خوفا من الغير أم فقدان شئ ما؟ مما لا شك فيه أننا لا نستطيع إخفاء وستر الكذب في معاملاتنا, لأنه حتما سينكشف أمره ويظهر يوما للعيان, وتكون النتيجة فقدان ثقة الناس فينا, حتي وإن قمنا بمحاولات لتبرير تخلصنا من الكذب.
والإنسان الذي يكذب, يفقد علاقته مع الآخرين ويفشل في معاملاته ومشاريعه وإنجازاته.
نكتشف كل يوم أشخاصا يلجأون إلي آفة الكذب والنفاق للاحتفاظ بمراكزهم في المجتمع, لكن للأسف سيفضح أمرهم مع مرور الوقت, ويطفو كذبهم علي السطح ويدركه الجميع, وتصبح النتيجة الحتمية فقدان مركزهم الاجتماعي والديني والأخلاقي. لماذا تقع الغالبية العظمي في رذيلة الكذب؟ يرجع البعض هذا إلي تربية الوالدين الصارمة واستخدام العقاب العنيف بصورة دائمة, فينتج عن ذلك الكذب والنفاق والخداع, لأن الأبناء يتسلحون بهذه الأساليب لينالوا رضا وإعجاب الوالدين, ثم ينتهي بهم المطاف إلي الوقوع في عادة الكذب, لأن التخويف الدائم لا يصنع شخصية سوية أبدا, ولا يجعل الإنسان صادقا في جميع المواقف.
إذا ليس المقصود استخدام الشدة في التربية والذي ينتج عنه الرعب الذي يحمل الأبناء للجوء إلي الخداع كوسيلة دفاع عن النفس, ويظل معهم ويتأصل فيهم في معاملاتهم مع الجميع, ولكن جعل الأبناء يقولون الصدق دون خوف, معبرين عما بداخلهم بكل بساطة وشفافية وهناك أنواع مختلفة من الكذابين, نستطيع سرد ثلاثة منهم الآن: النوع الأول هم الذين يملكون الكذب في الدم حتي أنهم يكذبون من أجل تجميل واقعهم, والنوع الثاني هم الذين يكذبون ليتفادوا الصراعات والمشاكل, بينما النوع الثالث لهؤلاء الكذابين العصريين الذين يدافعون عن أنفسهم قائلين: الآخرون فهمونا خطأ.
لذلك يجب أن نضع في الاعتبار أن آفة الكذب ولادة فالكذبة الواحدة تنجب مئات ومئات من الكذب والنفاق, ويصل بنا الحال إلي الدفاع عنها بمجموعة أخري من الأكاذيب, ويصبح الإنسان الكاذب مكبلا بسلسلة لا يستطيع الإفلات منها.
وهنا نتساءل: ما موقف الكذاب أمام المجتمع والآخرين عندما ينكشف ويفتضح أمره؟فالإنسان الذي يكذب مرة واحدة, سيفقد بلا شك ثقة الناس في كلامه, وإن حاول تبرير ذلك, وتكون النتيجة الحتمية ألا يصدقه أحد أو يثق في أي حديث يتفوه به.
ولكن من يرغب في ثقة الناس فيه, عليه أن يتحلي بالصدق والشفافية في أقواله وأفعاله.
فما أجمل وأروع قول الحقيقة في كل حين ومع جميع الناس! كما يجب أن تكون الحقيقة دون مبالغة أو نقصان, لأن من يتفوه بها, يصبح شخصا موثوقا فيه من الجميع.
ونختم بكلمات الفيلسوف أرسطو: أحسن الكلام ما صدق فيه قائله, وانتفع به سامعه.