إن قصة يونان النبي هي قصة صراع بين الذات الإنسانية والله. ويونان النبي كان إنسانا تحت الآلام مثلنا. وكانت ذاته تتعبه. ونود في هذا المقال أن نتأمل صراع ذاته مع الله…
الذي يريد أن يسير في طريق الله ينبغي أن ينكر ذاته, يجحدها وينساها, ولا يضع أمامه سوي الله وحده. ومشكلة يونان النبي أن ذاته كانت بارزة ومهمة في طريق كرازته. وكانت تقف حائلا بينه وبين وصية الله ولعله كثيرا ما كان يفكر في نفسه هكذا:
ما موقفي كنبي, وكرامتي, وكلمتي, وفكرة الناس عني؟؟ وماذا أفعل إذا اصطدمت كرامتي بطريقة الله في العمل؟
ولم يستطع يونان أن ينتصر علي ذاته…
كلفه الله بالذهاب إلي نينوي, والمناداة بهلاكها.. وكانت نينوي عاصمة كبيرة فيها أكثر من 120000 نسمة. ولكنها كانت أممية وجاهلة وخاملة جدا, وتستحق الهلاك فعلا. ولكن يونان أخذ يفكر في الموضوع: سأنادي علي المدينة بالهلاك, ثم تتوب, ويتراءف الله عليها فلا تهلك.
ثم تسقط كلمتي, ويكون الله قد ضيع كرامتي علي مذبح رحمته ومغفرته. فالأفضل أن أبعد عن طريقه المضيع للكرامة!!
وهكذا وجد سفينة ذاهبة إلي ترشيش, فنزل فيها وهرب. لم يكن يونان من النوع الذي يطيع تلقائيا. إنما كان يناقش أوامر الله الصادرة إليه, ويري هل توافق شخصيته وذاته أم لا.
ليس كذلك الملائكة. إنهم يطيعون بغير مناقشة, وبغير تردد. أن الله كلي الحكمة, وهم مجرد منفذين لمشيئته, وليسوا شركاء له في التدبير حتي يناقشوا أو يعترضوا..
سواء كان الأمر رحمة أو قصاصا يطيع الملائكة بلا نقاش: يأمر الله أحدهم أن يذهب ليسد أفواه الأسود منقذا دانيال فيطيع. وبنفس الطاعة يذهب الملاك الذي يأمره الرب بقتل جميع أبكار مصر. ملائكة يأمرهم الله بإنقاذ بطرس من السجن, أو إنقاذ بولس, أو بإنقاذ لوط, أو بإنقاذ هاجر, فيطيعون. وبنفس الطاعة ينفذ أمره الملائكة الذين يبقون بالأبواق في سفر الرؤيا فتنزل الويلات علي الأرض تحطمها تحطيما. لا يقولون عفوا يارب, أشفق وارحم, وابعدنا عن هذه المهمة. وظيفتهم هي التنفيذ, وليس التدبير أو التفكير. إنهم متواضعون, لا يعتبرون أنفسهم أحن علي الناس من الله خالقهم.
يذكرني هذا بقوانين الأحوال الشخصية, ومنع الطلاق إلا لعلة الزنا, وعبارات الحنو التي يدافع بها البعض عن زواج المطلقات كأنهم أكثر حبا وعطفا وحنانا من المسيح الذي وضع الوصية…
أما نحن فوظيفتنا هي التنفيذ وليس المناقشة. لا نريد أن نعمل مثل يونان, الذي تلقي الأمر من الله, فناقشه ثم رأي الحكمة في مخالفته..! وهكذا استقل سفينة ليهرب من الرب..! مسكين هذا الإنسان الذي يظن أنه يقدر علي الهروب من الله! تري إلي أين يهرب؟!
مهما هربت من الوصية ستجدها تطاردك حينما كنت. ترن في أذنيك وتدور في عقلك وتزعج ضميرك.
إن كلمة الرب قوية وفعالة, ومثل سيف ذي حدين, وتستطيع أن تخترق القلب والعقل, وتدوي في أرجاء الإنسان.
هرب يونان إلي ترشيش, ونسي أن الله موجود في ترشيش أيضا. وركب السفينة وهو يعلم أن الله هو إله البحر, كما أنه إله البر أيضا. ولم يشأ الله أن يصل يونان إلي ترشيش, وإنما أمسكه في البحر, وهيج الأمواج عليه وعلي السفينة كلها… والعجيب أن يونان كان قد نام في جوف السفينة نوما عميقا. لا أيقظه الموج, ولا صوت الأمتعة وهي تلقي في الماء, ولا صوت ضميره!!
نام يونان, لم يهتم بمشيئة الله وأمره, ولم يهتم بنينوي وهلاكها أو خلاصها, ولم يهتم بأهل السفينة وما تجره عليهم خطيئته… لكنه تمركز حول ذاته, وشعر أنه حافظ علي كرامته. فنام نوما ثقيلا…
هذا النوم الثقيل كان يحتاج إلي إجراء حاسم من الله: به ينقذ ركاب السفينة جسديا وروحيا, وينفذ مشيئته من جهة نينوي وخلاصها, وينقذ نفس النبي الهارب, ويعلمه الطاعة والحكمة, مستبقا إياه في خدمته بطول أناة عجيبة, علي الرغم من كل أخطائه ومخالفته…
ومن هم جنودك يارب الذين ستستخدمهم في عميات الإنقاذ الكبري هذه؟ يجيب الرب عمليا:
عندي الموج, والرياح, والبحر, والحوت, والشمس, والدودة, واليقطينة… إن كانت خليقتي العاقلة لم تطعني, فسأبكتها بالجمادات والحيوانات.
وهكذا أمر الله الرياح, فهاج البحر, وهاجت أمواجه, وصدمت السفينة حتي كادت تنقلب. وازداد هيجان البحر لأن أمر الرب كان لابد أن ينفذ وبكل سرعة, وبكل دقة.
وتصرف ركاب السفينة بحكمة وحرص شديدين, وبذلوا كل جهدهم الفني, وصلوا كل واحد إلي إلهه وألقوا قرعا ليعرفوا بسببها من كانت تلك البلية, فأصابت القرعة يونان.
الوحيد الذي لم يذكر الكتاب أنه صلي كباقي البحارة, كان يونان. وحتي بعد أن نبهه أو وبخه رئيس النوتية, لم يلجأ إلي الصلاة. كان عناده أكبر من الخطر المحيط به… حاول ا لبحارة إنقاذ يونان بكافة الطرق فلم يستطيعوا, واعترف يونان أنه خائف من الله الذي صنع البحر والبر!! إن كنت خائفا منه حقا, نفذ مشيئته. ما معني أن تخافه وتبقي مخالفا؟ ولكن كبرياء يونان كانت ما تزال تسيطر عليه. إن الإنسان إذا تعلق بذاته وكرامته يمكن أن يضحي في سبيل ذلك بكل شيء.. كان يونان يدرك الحق, ومع ذلك تمسك بالمخالفة, من أجل الكرامة التي دفعته إليها الكبرياء, فتحول إلي عناد.. قالوا له ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا؟. فأجابهم خذوني واطرحوني في اليحر وهنا أقف متعجبا!!
علي الرغم من كل هذه الإنذارات والضربات الإلهية, لم يرجع يونان. لم يقل أخطأت يارب في هروبي, سأطيع وأذهب إلي نينوي… فضل أن يلقي في البحر, ولا يقول أخطأت..!
لم يستعطف الله. لم يعتذر عن هروبه. لم يعد بالذهاب. لم يسكب نفسه في الصلاة أمام الله. إنما يبدو أنه فضل أن يموت بكرامته دون أن تسقط كلمته!! وهكذا ألقوه في البحر..
أما مشيئة الله فكانت لابد أن تنفذ. هل تظن يايونان أنك ستعاند الله وتنجح؟ هيهات, لابد أن تذهب مهما هربت, ومهما غضبت. إن الله سينفذ مشيئته سواء أطعت أم عصيت, ذهبت أم هربت…