قضى الدكتور محمد عناني ( 4 يناير 1939 – 3 يناير 2023 )، عمرًا طويلًا حافلًا بالدراسات الأدبية والترجمة والنقد والإبداع، هذا بالإضافة لمنصبه كأستاذ للشعر و الدراما في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة ومحرر لسلسلة الأدب المعاصر (الأعمال الأدبية العربية المترجمة إلى الإنجليزية، والتي صدر منها 75 كتابًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب) و سلسلة الألف كتاب الثاني المترجمة إلى اللغة العربية التي أصدرتها أيضًا الهيئة العامة للكتاب. كم هائل من الكتب الأدبية خرجت من بين يديه قلمًا يستطيع أحد أن ينجز مثلها بكل هذا الحماس والاستمرارية دون كلل أو تباطؤ أو رغبة في التوقف، بل برغبة عارمة في الاستمرار يدفعها العشق الشديد للفن و الأدب الذي لازمه إلى نهاية العمر.
و في الوقت الذي يتسابق الكثيرون للظهور و تحقيق الشهرة من خلال أحاديث في جميع وسائل الإعلام نجد أستاذنا الكبير الدكتور محمد عناني قد عكف على مشروعاته الثقافية العظيمة و أنجز في حياته 130 كتاب باللغتين العربية و الإنجليزية.
من أشهر ترجماته “الفردوس المفقود” لجون ميلتون، والتي نال عليها جائزة الدولة في الترجمة عام 1982، بعدها نال وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى عام 1984، ثم جائزة بن تركي للترجمة إلى الإنجليزية عام 1998 التي تُمنح من المملكة السعودية برعاية جامعة الدول العربية، و توالت بعدها جوائز عديدة كان آخرها جائزة رفاعة الطهطاوي للترجمة إلى العربية من المركز القومي للترجمة عام 2014.
له مجموعة من المؤلفات الإرشادية للمترجمين، و هي: “فن الترجمة” “الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق”، “مرشد المترجم”. ترجم عددًا كبيرًا من مسرحيات شكسبير نذكر منها :”يوليوس قيصر”، “هاملت”، “الملك لير”، “حلم ليلة صيف”، هنري الثامن، و “روميو و جولييت”.
و ترجم أيضًا “سونيتات شكسبير” و هي مجموعة من قصائد الشعر الغنائي الذي كان منتشرًا في أوروبا في العصور الوسطى.
ترجم الدكتور محمد عناني العديد من الدواوين لشعراء عرب إلى الإنجليزية نذكر منهم فاروق جويدة و فاروق شوشة و صلاح عبد الصبور و الفيتوري و حبيبة محمدي و صلاح جاهين . له مؤلفات مسرحية عديدة، مثل :”المجاذيب”، “الغربان”، “السادة الرعاع”، “الدرويش و الغازية” “حلاوة يونس”.
جدير بالذكر أنه في عام 2019 تصدرت موسوعة “الهرمنيوطيقا” بأجزائها الثلاثة التي ترجمها الدكتور محمد عناني .. قائمة الكتب الأكثر مبيعًا باليوبيل الذهبي لمعرض الكتاب. و الهرمنيوطيقا هي المدرسة الفلسفية التي تشير إلى تطور نظريات و فن دراسة وفهم النصوص في فقه اللغة و اللاهوت و النقد الأدبي، و غالبًا ما يستخدم مصطلح الهرمنيوطيقا في الدراسات الدينية.
كان لـ”وطني” لقاءً خاص مع الدكتور محمد عناني عام 1988، حيث تم مناقشة قضية الشعر و عزوف الكثيرين عن قراءة الشعر أو تذوقه مقارنة بالعصور السابقة، و لكن لم يتم نشر الحوار في ذلك الحين و ها هو الحوار مع الدكتور محمد عناني ينشر اليوم لأول مرة. و إليكم المقدمة التي كتبت في ذلك الوقت و نص الحوار:
يعتقد الكثيرون أن لغة العلم أو المال أو السلاح أقوى بكثير من الكلمة، وأن الأعمال الأدبية وعلى رأسها الشعر لا تستطيع أن تضيف إلى أو تغير مصير أمة، و يتهم الشاعر دائمًا أنه بمعزل عن الناس و لا يستطيع القيام بدور إيجابي في المجتمع، اعتقادًا منهم أن الشعراء لا يكتبون إلا قصائد العشق أو الرومانسية أو قصائد وطنية تحمل مشاعر مزيفة أو مبالغ فيها، و لعل أصحاب هذه النظرية من أقل الناس قراءة للشعر و فهما لدور الشعراء، و يرجع ذلك لظروف العصر الذي نعيش فيه و الذي طغت عليه الصراعات بكل أنواعها المادية و السياسية و تدهور المستوى الثقافي بشكل واضح، و حول موضوع الشعر و فاعليته في عصرنا الحالي دار هذا الحوار مع الدكتور محمد عناني أستاذ الدراما و الشعر بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة :
س/ ما هو وضع الشعر في مصر و العالم العربي في عصرنا الحالي مقارنة بما كان عليه في العصور القديمة؟
ج/ بكل أسف تدهور الشعر في مصر بصورة لم يسبق لها مثيل، و يكفي المقارنة التالية:
عندما زار مصر الشاعر الأمريكي ستانلي كونيتز، قال لي في إحدى الجلسات أن عدد الشعراء المحترفين؛ أي الذين ينشرون شعرهم في كتب و مجلات و أصبحت لهم دواوين في أمريكا قد بلغ عددهم، وفقًا لآخر
إحصاء (1978 – 1979) خمسين ألف شاعر، منهم خمسة آلاف من الشعراء المجيدين أي الذين يمكن دراسة شعرهم على مستوى عال أكاديمي، و منهم 500 متميزين سيبقون للأجيال القادمة، و أما شعراء العالم العربي فلا يتجاوز عددهم ألف شاعرا من الشعراء المجيدين و غير المجيدين، مع أن العالم العربي يبلغ عدد سكانه نصف تعداد سكان الولايات المتحدة.
س/ لماذا هذه الفجوة؟
ج/ لأن الشعر لا ينظر إليه، و بالأخص في مصر على أنه مهنة ممكن أن يعيش منها الإنسان أو أن يكسب احترام أو ثقة المجتمع.
س/ هل الشاعر غير قادر على التعبير عن عصره أو عن وطنه أو قضايا عامة ؟
ج/ الشاعر هو أحد طرفي المعادلة الصعبة، و هي الفرد و المجتمع، دون أن يريد المجتمع الشعر و يسعى إليه سيظل الشاعر صوتًا ينادي في البرية؛ مثل يوحنا المعمدان.
س/ هل الظروف هي التي تخلق الشاعر؟
ج/ أريد أن أذكر القراء بمقولة الكاتب الكبير ماثيو آرنول:
Power of the man and power of the moment
إن الرجل الذي يتميز بالعبقرية و القدرة على الصياغة و الإبداع لابد أن تتوفر لديه أيضا قوة اللحظة التاريخية المناسبة حتى تلتقي عبقريته بعبقرية العصر، و إن لم تتوفر هذه اللحظة سيكون صوت الشاعر خاليًا خاويًا لا معنى له.
و في مصر لدينا العبقرية و ليس لدينا اللحظة التي كانت موجودة في تاريخ مصر أيام القصيدة القومية، عندما كانت تشد المصريين نزعة محاولة طرد الإنجليز، أو محاولة الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية أو محاولة وضع حد للتقاليد البالية.
س/ هل هناك ضرورة لوجود قضية سياسية يتمركز حولها الشعر ؟ ألا يمكن وجود قضية اجتماعية هامة و ربما مؤلمة تكون جديرة باهتمام الشاعر و يتقبلها أيضا المواطنون؟
ج/ هذا ممكن و لكن لكي يشعر بها الناس الذين يمثلون الطرف الآخر في ميزان الفرد و المجتمع يجب أن يوجد نوع من الثقافة التي تجعل المجتمع يشعر بهذه القضية أي التربية الثقافية، لكن بكل أسف أجهزة الإعلام تقتل هذا الوعي في المجتمع في مصر، بحيث لا يجمع الناس في مصر أي انتماء حقيقي لأي قضية اجتماعية أو فكرية أو ثقافية، فلننظر إلى المجتمع المصري و ما يدور به، ماذا يشغل الناس الآن؟
س/ ربما غلاء الأسعار ؟
ج/ غلاء الأسعار لا يصنع لحظة تفجر عبقرية الشاعر و تلتقي بها، هذه موجة عابرة و كل بلدان العالم تتعرض لها، و قد تزول أو لا تزول، فبعد الحرب العالمية الثانية كانت هناك موجة غلاء، و لم يلتفت إليها أحد، و أذكر مونولوج شكوكو الذي يقول فيه :”أما الأسعار عند التجار هتولع نار”.. ما هي القضية الاجتماعية الحالية؟ ربما يصاب الناس بالذعر هذه الأيام من انحرافات الشباب و الإدمان و الجرائم المفاجئة !!، و لكن أجهزة الإعلام لا توحد مشاعر الناس إزاء أية قضية من هذه القضايا بحيث تصنع قضية قومية، فهي تقوم بدور إطفاء حدود اللحظة .
س/ هل ندرة اللقاءات الحية من الأسباب الأساسية لخلق فجوة بين الشاعر و المجتمع؟
ج/ نعم، لأن الشعر المسموع أكثر تأثيرًا من الشعر المقروء، و هناك مثل يقول: إن لم تستطع أن تهزمهم فلتلحق بركبهم، فنحن لا نستطيع أن نهزم التليفزيون و الإذاعة، و لكننا نستطيع أن نلعب نفس اللعبة التي تلعبها الإذاعة و التليفزيون.
س/ هل معظم الندوات الشعرية يكون أعضاؤها من الشعراء ؟
ج/ هذا غير صحيح، ففي كلية الآداب تعقد ندوات بانتظام للطلبة، و أما الندوات التي تعقد في كرمة ابن هانىء فهي بالفعل خاصة بالشعراء. و لابد أن تستغل الأوبرا الجديدة لندوات الشعر، و قد سبق هذا بالفعل فمنذ فترة عقد الشاعر فاروق جويدة ندوة بالقاعة الصغيرة بدار الأوبرا، ولكن للأسف لم يعلن عنها إلا قبلها بيوم واحد لسوء التخطيط، و لكن عندي أمل في إعادة حركة الندوات الشعرية حتى يعود للشعر صوته الحي، لأنه بدون هذا الصوت الحي يصير الأمل ضعيف جدًا في استرداد الشعر لقيمته الفنية.
س/ إذن الجمهور المصري على درجة من الوعي؟!
ج/ لاشك أنه يتقبل العمل الجيد و يقدره، و لكن النشر لم يعد وسيلة الشعر، لأن نشر القصيدة لا يمثل ميلاد قصيدة لأن القصيدة المنشورة لا يقرأها سوى الشعراء أو النقاد أو المختصين، و هؤلاء لا يزيدون عن بضعة آلاف و نحن نريد أن تصل القصيدة إلى الملايين، و إذا نظرنا إلى التليفزيون و الإذاعة سنجدهما مسخران للدعاية و ليس للثقافة، و نحن نريد تحويلهما من أجهزة إعلانية إلى أجهزة تثقيفية.
س/ لماذا لا يقترب الشعراء من طلبة المدارس؟
ج/ طالما أن اللغة العربية ضعيفة لدى الطلاب فليس من المتوقع استجابتهم للشعراء، أننا نطالب بأن يعود للتعليم المصري وجهه الصحيح، و يتقن المصري لغته القومية، لأنه بدونها لن يكون هناك فائدة للغات الأجنبية التي يدرسها، وعلى كل ليس من الضروري أن يكتب الشعر بالفصحى.
س/ هل ينافس شعر العامية شعر الفصحى؟
ج/ لا ينبغي على الإطلاق أن نتصور أن شعر العامية يحل محل شعر الفصحى، و ربما ينافسه إذا ظهر شاعر عامي عبقري، و أحدث تيارًا كبيرًا من شعراء العامية، و لكن هذا لم و لن يحدث، بيرم التونسي كان شاعرًا عبقريًا و لكنه لم يطمس أحمد شوقي، مع أن أحمد شوقي كان يقول أن بيرم خطر على اللغة العربية، و بالتالي لم نستطع أن نقول أن صلاح جاهين خطر على اللغة العربية، لأن هناك صلاح عبد الصبور وأحمد حازي، و لا نقول إن عبد الرحمن الأبنودي خطر على العربية، لأن هناك محمد عفيفي مطر و فاروق جويدة و فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة، نحن لا نخاف اليوم من شعراء العامية، لأن هناك شعراء القصائد، و لكن المأساة هي عدم وصول أصواتهم إلى الجمهور .
س/ هل يهرب الناس من الشاعر الباكي و يستبدلون آهاته باغنية أو رقصة ؟
ج/ هذا قد يكون صحيحًا، و ليس المطلوب من الشاعر أن يكون باكيًا أو ضاحكًا، الناس تنشد في الشعر ما لا تجده في الفنون الأخرى، تطلب الصوغ المحكم لمشاعر تحس بها و لا تستطيع أن تعبر عنها، فالشاعر يستطيع أن يرى ما لا نراه، و أن يكشف لنا من خلال القصيدة ما لا نستطيع أن نراه أو نكتشفه، الشاعر هو كما قال شيلي : “الرجل الذي يضع التشريعات للبشرية”.. تشريعات الإحساس و الإدراك و الفكر و لو أن البشرية لا تعترف بهذه التشريعات، أن الشاعر يستطيع أن ينفذ إلى أعمق أعماق النفس البشرية دون أن تحس أنه جار عليك أو ظلمك أو يستولى عليك.
س/ هل يقتصر دور الشاعر على تقديم قضية والتعبير عنها أم يجب أن يقدم حلولا لها؟
ج/ ليس من مسؤولية الشاعر أو الفنان أن يقدم حلولًا للمشاكل، إنما هو يستجيب لما هو موجود في نفوس الآخرين فيبلوره لهم حتى يحسوا به إحساسًا أعمق، فالشاعر ليس مطالبًا مثلًا بحل مشكلة المواصلات أو غلاء الأسعار، بل يهمه ما تحدثه أزمة المواصلات في نفوس الناس.
و أنني أعتقد أن المجتمع قد غاص في مشاكل فرعية أهمها في رأيي هو الارتداد إلى تراث من الكتب الصفراء و التخلف، أقصد المطالبة بالعودة بالمرأة إلى عصر الحريم، و هذه قضية ذات أبعاد قومية، فهؤلاء الذين يظلمون المرأة لا تستطيع أذهانهم أن تتقبل وجود المرأة كإنسان سوي له عقل، بينما الدين لم يطالب أبدا بعزل المرأة عن المجتمع، ففي التاريخ الديني، كانت المرأة موجودة داخل المجتمع كعنصر أساسي يشكل نصف المجتمع شئنا أم أبينا.
و ماذا يفعل الشعراء إزاء هذه القضية؟
ج/ إنهم يكتبون قصائد الغزل التي تؤكد نظرتهم الحسية للمرأة !! إنني أنعي الشعراء لتأثرهم بنزار قباني.