عزيزي القارئ، حدثتك في المقال السابق عن أهمية البعد التاريخي كأحد أهم أبعاد اللحن القبطي، واليوم في هذا المقالسوف نستكمل فيه هذا البعد التاريخي والجذور الفرعونية للحن القبطي التي جعلته مميزا عن أي لحن آخر.
الجذور الفرعونية للحن القبطي
من فرط أن الألحان القبطية صارت حاملة سمات وخصائص وطبيعة الموسيقى الفرعونية، ظن البعض أن الألحان القبطية هى ألحان فرعونية صرف، تم تركيب كلمات قبطية عليها، ويستند هؤلاء إلى وجود هذا التطويل بالإطناب النغمى “Melisma”ومستندين أيضاً إلى أن بعضاً من هذه الألحان يحمل أسماء لمدن مصرية قديمة اندثرت منذ زمن بعيد مثل اللحن المسمى بالـ”سنجارى” وهو اسم لمدينة مصرية بشمال الدلتا يرجع زمنها إلى زمن رمسيس الثانى، وكذلك اللحن الإدريبى “Kai vpertov” المميز لأسبوع الآلام والذى يُرجح أنه مشتق من الكلمة القبطية “إترهيبى `terhipi “والتى تعنى الحزن، أى “اللحن الحزين”، فنسبه البعض إلى بلدة أدريبية التى تقع فى مدينة سوهاج بصعيد مصر.
والحقيقة هي أن الألحان القبطية قد حملت سمات وخصائص وطبيعة شعب بأكلمه، فحملت بذلك سمات وخصائص وطبيعة موسيقاه. فالمعروف عن الديانة المسيحية أنها عندما تدخل الى مدينةٍ ما، لا تمحي شخصية شعبها، لكنها تحفظها. فهي تحفظ كيانه لكن تقدسه، وتحفظ عاداته لكن تنقيها، وتحفظ سمات ألحانه وخصائصها لكنها تعيد صياغتها حتى تستطيع أن ترفع بها مشاعره نحو السماء. فهناك نظرية تقول أن كل شعب إعتنق الديانة المسيحية، صنع لهذه الديانة الجديدة فنوناً مستمدة من فنونه القومية الشعبية التي يفهمها وينسجم معها ويستسيغها. ومثال ذلك الحبشة، فالبرغم من أن الكنيسة الحبشية وليدة الكنيسة القبطية، إلا أن ألحانها ألحاناُ حبشية بحتة، ولم تأخذ من الكنيسة القبطية ألحانها. وهذه الموسيقى تستخدمها الكنيسة الحبشية حتى اليوم في طقوسها ومناسباتها الكبرى وقداساتها.
والإطناب النغمى “Melisma” قد ثبت بالفعل انه أسلوب فى الغناء كان موجوداً أيام الفراعنة فقد كتب ديمتريوس الفاليرونى عام 297 ق.م وهو أحد أمناء مكتبة الاسكندرية: “إن كهنة مصر كانوا يسبحون آلهتهم من خلال السبعة حروف المتحركة التى كانوا يأخذون فى الغناء بها الواحد تلو الآخر، وكان ترديدهم بهذه الحروف يُنتج نغماتاً عذبة”.
إلا أن هذا الأسلوب إمتد إلى الكنيسة القبطية قديماً كأسلوب وليس كألحان بذاتها. يؤكد ذلك ما كتبه المؤرخ الكنسي الأسقف يوسابيوس القيصري نقلاً عن “فيلو Philon” المعاصر للرسل(22 ق.م – 54 م) يقول واصفاً التسبيح أيام الرسل في مصر إذ قال:
“وهكذا لا يقضون وقتهم في تأملات فحسب بل أيضا يؤلفون الأغاني والترانيم لله بكل أنواع الأوزان والألحان ويقسمونها بطبيعة الحال إلى مقاييس مختلفة”.
مما يؤكد أن هناك تأليفاً جديدا لله بكل الأنواع والأوزان والألحان والمقاييس المختلفة. لكن من الطبيعى أن تأليف هذه الأغانى والترانيم الجديدة جاء بإستخدام نفس المقامات والأجناس الموسيقية المعتاد سماعها، فمن السهل تأليف ترنيمة جديدة ولكن ليس من السهل إبتكار مقام موسيقى جديد. ومن المحتمل أن يكون من بين الذين قبلوا الايمان المسيحى في مصر، مؤلفين وملحنين درسوا العلوم الموسيقية في المدرسة اللاهوتية بالاسكندرية التي أسسها القديس مرقس الرسول، وتحركت أحاسيسهم ومشاعرهم نحو المسيح فصاروا يؤلفون ويلحنون للرب “ترنيمة جديدة” تعبر عن مشاعرهم الإيمانية بنفس أنواع الأوزان والألحان والمقاييس الفرعونية المعروفة أنذاك.
أما الإطناب النغمى “Melisma” فى حد ذاته فقد إستخدمته الكنيسة القبطية كأسلوب ليُعبّر عن معنى روحى وليشرح معنى لفظى مثل الإطناب النغمى فى لحن “arihov`o sac4 2a ni`eneh” الذي جاء ليعبر عن “زيدوه علواً إلى الآباد” التى هى ترجمة اللحن والذي عبرت الميليسما عن كلماته تعبيراً دقيقاً وبغير الميليسما لم يكن ذلك ممكناَ.
فمن المؤكد أن آباء الكنيسة القبطية الأولين قد عاشت في وجدانهم الموسيقى الفرعونية بمقاماتها وأجناسها وطابعها الموسيقى “”Moods ، واُختُزِنت فى عقلهم الباطن، فصاروا يصيغون بالروح الذى ملأهم ألحاناً جديدة حتى وإن حوت بين طياتها بعض الخلايا الموسيقية “themes” الفرعونية او بعضاً من الجمل الموسيقية المختزنة فى العقل الباطن فذابت هذه الخلايا الموسيقية الفرعونية مع الجمل الجديدة لينتج نسيج موسيقى جديد بصبغة مصرية قبطية لها نكهنة فرعونية عريقة.لذلك لم تنتحل كنيستنا القبطية في يوماً ما شخصية البلاذجياريو “Plagiario” الذى يسرق مؤلفات الغير وينسبها إلى نفسه.
عزيزي القارئ، أتمنى أن أكون قد إستطعت أن أشرح لك أهمية البعد التاريخي كأحد أهم أبعاد اللحن القبطي، وجذوره الفرعونية، فإلى أن ألقاك في مقال جديد نستكمل فيه الحديث عن الجذور الفرعونية للحن القبطي اتركك مستمتعا بتسابيح الرب الجميلة في كنيستنا القبطية.