يوحنا المعمدان شخصية في مفترق العهدين. يمكن اعتباره من رجال العهد الجديد, الملاك الذي أعد الطريق أمام السيد المسيح.
عظمة يوحنا:
وكان يوحنا إنسانا عظيما, وفي عظمته نذكر ثلاث ملاحظات:
أولا:ـ إنه كان عظيما بشهادة السماء نفسها
كثيرون شهد لهم الناس بالعظمة, وكانت شهادات خاطئة, أو زائفة, أو متملقة, أو عن جهل, أما يوحنا المعمدان فكانت عظمته حقيقية ويقينية, شهد بها ملاك الرب الذي بشعر بميلاده (لو1:15), بل شهد بها الرب نفسه (متي 11:11). وهكذا لصقت العظمة بيوحنا حتي قبل أن يولد…
ثانيا:ـ لم يكن عظيما فقط, وإنما أعظم من كل البشر
وفي هذا قال عنه السيد المسيح نفسه للجموع … ماذا خرجتم إلي البرية لتنتظروا؟ أنبيا؟ نعم, أقول لك: وأفضل من نبي, فإن هذا هو الذي كتب عنه, ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك. الحق أقول لكم أنه لم يكن بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان… (متي 11: 7 ـ 11).
ثالثا:ـ كانت عظمة يوحنا, عظمة أمام الرب
قال الملاك الذي بشر بميلاده لأنه يكون عظيما أمام الرب (لو1: 15)… حقا أننا لنقف مذهولين أمام عبارة عظيما أمام الرب… فأمام الرب كلنا لا شيء تراب ورماد, تختفي كل عظمة, ويسدد كل فم.. أما أن يكون إنسان ما عظيما أمام الرب, فهذا شيء عجيب. وعجيب جدا, يدل علي تواضع الرب وتشجيعه لخليفته, ويدل أيضا علي قيمة هذا الإنسان في قلب الله…
فما هو السر في عظمة يوحنا, هذه العظمة العجيبة؟
أعمال عظيمة قد قيلت عنه: منها أنه يريد كثيرين إلي الرب إلههم يرد العصاة إلي فكر الأبرار, يهيئ للرب شعبا مستعدا يهيئ الطريق قدام الرب يتقدم أمامه بروح إيليا وقوته…
وفي كل ذلك نسأل الملاك الذي بشر بميلاده عن سر هذه العظمة العجيبة, فيجيبنا بقوله إنه من بطن أمه يمتلئ بالروح القدس (لو 1:15).
حقا, هذه هي سر عظمة يوحنا…
سمعنا في الكتاب المقدس أن الروح القدس حل علي كثيرين في العهد القديم: حل روح الرب علي شمشون وعلي شاول وعلي داود, وعلي كثير من الأنبياء. ولكن لم نسمع مطلقا عن أحد من هؤلاء, أنه من بطن أمه قد امتلأ بالروح القدس… هذا الأمر قد اختص به يوحنا المعمدان, لم يسبقه إليه أحد…
ومن نتائج هذا الامتلاء أنه ارتكض بابتهاج في بطن أمه تحية للجنين الإلهي وهو في بطن العذراء…
لقد أوتي المعرفة التي يميز بها الرب وهو ما يزال جنينا في الشهر السادس في بطن القديسة أليصابات. بل أنه أيضا أوتي روح العبادة وهو في بطن أمه. أمر لم نسمعه عن أحد الأنبياء أو القديسين من قبل… لقد عرف المسيح, وآمن به, وسجد له في البطن, قبل أن يولد المسيح…
قالت عنه أمه أليصابات ارتكض الجنين بابتهاج في بطني. لقد ابتهج بالرب, فرح به. فرح بالخلاص الذي كان مزمعا أن يأتي إلي العالم من بطن العذراء!…
عجيب مثل هذا الابتهاج من جنين لا يدرك ولا يعي!
ولكن يزول العجب إذ كان هذا الجنين ممتلئا من الروح القدس والروح يفحص كل شيء حتي أعماق الله (1كو 2:10).
نذير الرب:
كان يوحنا المعمدان مفرزا للرب قبل أن يولد…
الله العارف بالمستقبل, الفاحص القلوب, والمدرك الخفيات, كان يعرف من سيكون هذا الإنسان يوحنا… لذلك اختاره الرب لنفسه. وكما يقول الرسول عن الرب ومختاريه..
الذين سبق فعرفهم, سبق فعينهم … هؤلاء مجدهم أيضا (رو 8:30) الله نظر إلي المستقبل, فرأي قلب هذه الملاك يوحنا, ورأي ماذا يمكن أن يفعل, فاختاره لنفسه ودعاه…
وصار نذيرا للرب قبل أن يولد وخمرا ومسكرا لا يشرب. وأعد له الرب نوع خدمته, قبل أن يولد… أنه يذكرنا يقول الرب لإرمياء النبي:
قبلما صورتك في البطن عرفتك, وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيا للشعوب (إر 1:5)
عرفتك… نعم, هذه المعرفة السابقة, هي سر لاختيار… تماما كما حدث في اختيار الرب ليعقوب دون أخيه عيسو, وهما لم يولدا بعد, ولا فعلا خيرا أو شرا, لكن الله كان يعرف خاصته, يعرف ماذا سيكون يعقوب, ماذا سيكون عيسو. لذلك قال لامهما رفقة في بطنك أمتان, ومن أحشائك يفترق شعبان…. وكبير يستعبد صغيرا (تك 25:23).
ولعل أعظم ما في حياة يوحنا أنه عمد السيد المسيح له المجد…
أتي إليه السيد المسيح ليعتمد منه كباقي الناس… من أجل الطاعة قام يوحنا بعماد المسيح. واستحق لذلك أن يري الروح القدس بهيئة حمامة, وأن يسمع صوت الآب قائلا هذا ابني الحبيب الذي به سررت (متي: 16ـ 17). وهكذا تمتع بالثالوث الأقدس, روحا وجسدا…
وتظهر عظمة يوحنا المعمدان في أنه تمم عمله العظيم في مدة قصيرة, لعلها ستة أشهر أوأزيد قليلا.
هذه الستة أشهر هي الفرق بين عمره وعمر المسيح, وكل منهما بدأ عمله في نحو الثلاثين من عمره. وخدم يوحنا هذه الستة أشهر. ولما ظهر المسيح بدأ يختفي هو. وفي هذه المدة الوجيزة استطاع يوحنا أن يهدي كثيرين إلي التوبة, وأن يشهد شهادة قوية للرب, وأن يمهد الطريق أمام المسيح وأقنع العالم كله بأن قوة الخدمة ليست في أولها, وإنما في عمقها, في مدي فاعليتها وتأثيرها…
أليس عجيبا أن كثيرا من الخدام النافعين لا يتركهم الرب يخدمون طويلا. يكفي أنهم قدموا عينة للخدمة, وعينة للبر. قدموا شهادة للرب. وقدموا مثالا يحتذي واكتفي الرب بما فعلوه, وأطلقهم بسلام.