بقلم: م. منــير وصـــفي بطـــــرس
باحث في موسيقى الألحان القبـطية
مـــدرس مــــادة اللــــحن الكنـــسي
بمعــــهـــد الرعـــــاية والتـــــربيــة
إن شهر كيهك يحتل مكانة خاصة في طقوس الكنيسة القبطية الأورثوذكسية، فيه تسهر الكنيسة بالألحان الكيهكية، وفيه نُمارِس الحياة الملائكية بالتسابيح والصلوات والتأملات، التي تجعلنا نتغنى بإيماننا بالتجسد الإلهي، فالتجسد هو مدخل جميع العقائد المسيحية،وتُعَبِّر ألحانُهُ عن انتظار البشرية لميلاد المخلص الذي تحتفل به الكنيسة في نهاية أيام شهر كيهك، فهو تَجَسَّد لكي يفدينا، وتجسد لكي نَثبُت في جسده حينما نتاوله في القداس الإلهي، ولذلك جاء لحن المزمور المائة والخمسين بالنغمات الكيهكية طقسياً في فترة توزيع الأسرار، وهنا توضح الكنيسة أنَّ تسبيحَها في فترة كيهك بهذا المزمور يُعَبِّر عن تجسد رب المجد، الذي كان من أهدافه إعطاءه جسده لنأكله فنحيا به ونثبت فيه وننال الخلاص، وهذا مانفعله في هذا التوقيت من القداس الإلهي.
فكرة التسبيح مع العبادة تاريخياً:
إن أول من وضع نظرية العبادة باللحن هو موسى النبي، ثم جاء بعده داود الملك والنبي ليضع نظرية التَخَصُّص في العبادة باللحن، ويؤكد الكتاب المقدس في سفرأخبار الأيام التسبيح أثناء تقديم الذبيحة فيقول: “وأوقف حزقيا الملك اللاويين في هيكل الرب بالصنوج والرباب والأعواد بمقتضى أمر داود وجاد النبي وناثان النبي، تلبيةً لوصايا الرب التي نطق بها على لسان أنبيائه، فوقف اللاويون بآلات داود والكهنة بالأبواق، وأمر حزقيا بتقريب المُحرَقة على المذبح، وما إن ابتدأ تقديم المُحرَقة حتى ارتفع نشيد الرب مصحوباً بالعزف على الأبواق وآلات داود ملك إسرائيل، وراح كل الحاضرين يشتركون في العبادة وأخذ المغنيون يَشدُون والمبوقون ينفخون بالأبواق إلى أن انتهى تقديم المحرقة، عندئذ سجد الملك وسائر الماثلين معه وعَبَدوا الرب، وطلب حزقيا الملك والرؤساء من اللاويين أن يُسَبِّحوا الرب بترانيم داود وآساف النبي فرتلوا بابتهاج وسجدوا وعبدوا الرب” (أخ 29: 25-30) وهذا مانفعله تماماً حينما نُسَبِّح ونُهَلِّل للرب بآلتي الإيقاع الناقوس والمثلث حتى نهاية فترة التناول، ولقد ذُكِرَ هذا منذ العصر الرسولي كما قيل في أوامر الرسل “وليُرَتَّل إلى أن يتناول القربان كافةُ المؤمنين”، وأكد هذا أيضا مجمع نيقية المسكوني، وقد كانت كنائس أورشليم في القرن الرابع من ضمن تسابيحها في هذا الجزء تُرَنِّم بمزمور “أبارك الرب كل حين وتسبحته دائما في فمي” ويرد الشعب (ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب)، وبعض المصادر تقول أيضاً أنه قديماً عندما ينتهي الاعتراف يرشم الكاهن الشعب بالصينية فيسجُد كلُ الشعب قائلين مع الشمامسة (“هوشعنا” (خلصنا) لابن داود هوشعنا لملك إسرائيل مبارك الآتي باسم الرب “هوشعنا” في الأعالي) وهي تعبيرات أحد الشعانين احتفالاً بدخول السيد المسيح إلى أورشليم، وهنا رمز لدخول ملك الملوك إلى نفوس المؤمنين ليَملُك عليها ويتحد بها بالإفخارستيا، ولكن حالياً يتم الاكتفاء بكلمة “ذوكصاصي كيريي ذوكصاصي” (المجد لك يارب المجد لك) وهذا قبل أن يرتلوا بلحن هلليلويا والمزمور المائة والخمسين، ويقال من هذه التسبحة الآن فقط عبارة (مبارك الآتي باسم الرب) عندما يحمل الكاهن الصينية وعليها الجسد المقدس.
التسبيح والتهليل بالمزمور المائة والخمسين:
البعض يُعَرِّف التهليل بأنه رفع الصوت بالفرح والابتهاج،والكنيسة تُرَتِّل (هلليلويا) في ختام القداس دلالةً علىفرحها بالخلاص الذي نالته بموت وقيامة المسيح، والمزمور المائة والخمسون هو مزمور الفرح والغلبة ومشاركة الأرضيين مع السمائيين في التهليل بتلك الوليمة السماوية الموضوعة على المذبح، وحينما نُسَبِّح ونُمَجِّد ونشكر الله نكون قد وَصَلنا إلى الهدف الذي خُلِقنا من أجلِهِ وهو التسبيح كالملائكة، فنحن محتاجين أن نكون في حَضرَتِهِونتمتع به، ونفرح وهو يَفرَح لِفَرَحِنا، وهذا الفَرَح نجده في حياة التسبيح، فتنعكس علينا البركات، ويقول المفسرون لسفر المزامير أنه مقسم إلى ثلاث درجات، الدرجة الأولى من مزمور 1 -50 وهو التطويب لمن يسلك في وصايا الله،والدرجة الثانية من مزمور 51 – 100 وهي حالة التوبة والتطهير من الخطايا، والدرجة الأخيرة من مزمور 101-150 يُمَثِّل حالة الإنسان وهو في طريقه إلى السماء للقاء الله، والمزمور المائة والخمسون خاصةً يُمَثِّل وجود الإنسان في السماء حيث يُسَبِّح الله مع الملائكة حول العرش؛ ولذلك اختارته الكنيسة لنُرَنِّم به وقت التناول حيث نَتَّحِد بالله.
علاقة التجسد بالإفخارستيا:
ولنيافة الحَبر الجليل الأنبا رافائيل محاضرة رائعة عن علاقة التجسد بالإفخارستيا، فيقول أن الإنسان هو مريض بمرض إسمه الموت، يحتاج إلى مُضاد لهذا الموت وهو جسد المسيح ودمه، كما قال رب المجد: (من يأكلني يحيا بي)،ويُشَبِّه نيافتُهُ هذا الوَضع بشخصٍ عنده نقص في عنصر (الحَديد) داخل جِسمِهِ “أنيميا” ويحتاج إلى وجود هذا العنصر داخله، ولكنه لا يفهم كيفية أخذ هذا الحديد،ولكن الطبيب يُعطِيهِ هذا (الحَديد) ولكن في صورة (أقراص)، وفي إيمانه أن هذه (الأقراص) هي ضرورية لحياتِهِ، وبدونها يكون هناك خطر على حياته، يَتَناولهامُدرِكاً بأنه أخذ الحَديد فعلاً ولكن بصورة أخرى لا يفهمهابعقله المحدود علمياً، ولكن يؤمن بنتيجتها وفائدتها لحياته،وهذا المثل شبيه بفكرة التناول أننا لانفهم بعقلنا المحدود كيف يمكننا أخذ جسد المسيح ودمه الحقيقى، ولكن الكنيسة تُعطِيهِ لنا في صورة أخرى في هيئة خبز وخمر،وحينما نأخذ الإفخارستيا في هذه الصورة نحيا بها ويتحد المسيح داخلنا، فالمسيح في تجسده كان ممتلأً بالحياة،وجسده ينبوع حياة، وكان لابد أن نأخذ هذا الجسد داخلنا لنستطيع أن نتحد به فنحيا؛ ولذلك أسَّسَ رب المجد سر الافخارستيا ليكون هو الصورة التي بها نأخذ جسده ودمه الكريمين، ومن واقع هذا التأمل نستطيع أن نُسَبِّح ربَنا يسوع المسيح ونتهلل بلحن (هلليلويا الكيهكي) في فترة التوزيع، حيث نتذكر تجسدَهُ المُبارَك ونحن في هذه اللحظات نتقدم إلى التناول من الأسرار الإلهية، التي عندما نتناولها نحيا بالمسيح ونَثبُت فيه فنُسَبِّحَهُ ونَشكُرَهُعلى عِظَم نعمتِهِ التي أعطاها لنا حيث أنه (تجسد ليُعطِينا جسدَهُ فَنَحيا بِهِ ونَثبُت فيِهِ).
رابط لحن هلليلويا التوزيع الكيهكي بصوت المرتل بولا منير: