وسط حشد من القصص التي تملأ الآذان بالدموع، وآهات تسلك الطريق الى الدماء الحنونة، يقفز الألم الاستثنائي، وتستيقظ الجروح الراقدة، وترسم الأوجاع خريطة المشاعر والسلوك، وتقتحم الخبرات أزمنة الصبا، وعلى شفاه الكؤوس الُمرة نرتشف رحيق التجارب وخلاصة الخبرات، ولأن لكل خبرة وجعها، وأبعادها، ولكل انسان تجربته الفريدة من نوعها، لا يمكننا تجاهل اوجاع الناجيات من العنف بكل اشكاله في مجتمعنا، ونحن نمر بالايام الستة عشر التي تحتفل بها مصر للعام السابع على التوالي ويطلقها المجلس القومى للمرأة، انها حملة الـ 16 يوم من الأنشطة لمناهضة العنف ضد المرأة، والتى يحتفل بها العالم كل عام خلال الفترة من 25 من نوفمبر، وحتى 10 ديسمبر، وتحمل الحملة هذا العام شعار “كوني”. في إشارة الى عدم الاستسلام لكونها ضحية، حتى تتمكن من ممارسة حياتها بشكل طبيعي.
ومصطلح “الناجية”، انتشر في الفترة الاخيرة كبديل لمصطلح الضحية، واسع الانتشار لوصف النساء والفتيات اللواتي يتعرضن للعنف بكل اشكاله سواء البدني، النفسي، الجنسي “التحرش، الانتهاك، والاغتصاب” فالخبراء النفسيين وجدوا ان كلمة ضحية تبسط تجربة العنف وتسلب المتعرّضة له من آدميتها لأن مفهوم الضحية يجعلها مجرد متلقية للعنف، ببنما الناجية مصطلح ينطوي عى ايجابية المستقبل حتى لو كان الماضي معتماً، لكن الدلائل تشير الى ان الحاضر يزخر بموروثات وتقاليلد واعراف مجتمعية، ترفع العنف لمرتبة القانون غير المكتوب، وتشرعن اسانيده، حتى لو كان في جزء منه، مثل الزواج المبكر وتشويه الأعضاء التناسلية “ختان الإناث”. تلك الظاهرة التي تسلب المرأة مشاعرها الطبيعية وحقها الممنوح من الله ان تحيا في علاقة حميمة مع شريك حياتها ، ذلك بخلاف الضرب المبرح، اغتصاب الزوجات، وبعض انواع العنف التي يعتبرها البعض تربية، وتهذيب.
ورغم أن معظمنا يحمل بعض الجروح أو الندوب من الطفولة الى الصبا والكهولة، من تلك الانواع من العنف، إلا ان تلك الجروح قد تشكل خريطة الحياة لدى البعض، حينما تتعلق بالعنف الملتبس بالانتهاك الجنسي، لأن الانتهاك والاعتداء الجنسي يشكّل ندوباً عميقة، بوصفه جزء شبه مستقل من العقل اللاواعي، تجتمع فيه التجارب العاطفية والذكريات المخزنة في اللاوعي من المرحلة الجنينية وحتى البلوغ، وتؤثر هذه التجارب الطفولية على سلوكنا كبالغين، وعلى نظرتنا للذات وللعالم من حولنا ” حسب عالم النفس الشهير كارل يونج، وهو ما يدق ناقوس الخطر، لانه يظل حبيس الصدور، كما ان حالات الانتهاك الجنسي في حدود الاسرة والعائلة، لا يتم الإبلاغ عنها بسبب الخوف من الفضائح والشعور بالوصم، وعادة يمر دون عقاب، ويترك الناجيات، مع العواقب السلبية المرتبطة به وفي بعض الأحيان تستمر مدى الحياة، لذلك يأتي الايذاء الجنسي داخل الاسرة في مقدمة انواع العنف الاشد وطاة على النفوس،لانه مسكوت عنه.
ورغم حرص الدولة المصرية خلال الثمان سنوات الأخيرة على بذل العديد من الجهود وإصدار التشريعات والقوانين والقرارات لضمان حماية المرأة من جميع أشكال العنف ضدها ، إلا ان الجهود المبذولة تضيع هباء ما لم يتم الحديث عما هو مسكوت عنه، فتغيير ثقافة المجتمع القائمة على معتقدات راسخة مشوهة، استوردها المجتمع من ثقافة الصحاري التي تبتعد كل البعد عن مصر. امر لا يغيره القانون، والمعتقدات المشوهة جبالا لا تهتز بالندوات والحملات، لذلك لابد من خلق آلية تضمن حماية الناجيات من اسرهن قبل حمايتهن من المسيئين الاغراب، وإلا ستظل الناجية مجرد ضحية، ولن تنجو ابدا ما دامت تحيا على ارضية ثقافية لا تحترم انسانيتها بغض النظر عن نوعها، وتنتهك جسدها وخصوصيتها.