متي تشعر النفس بأن الله موجود معها!
في الحقيقة. من ضمن الأوقات الأساسية التي تحس فيها بوجود الله معنا:
1- أوقات الضيق والتعب:
وقت الضيق -هو الاحتياج إلي الله- وفيه تشعر بوجود الله أكثر مما تشعر في وقت الراحة أو المتعة. تشعر في الضيقة بيد الله كيف تتدخل وتعمل وتنقذ..
يعقوب أبو الآباء بدأت خبراته الروحية في وقت الضيقة..
لم نسمع له عن خبرات روحية ولا مناظر ولا رؤي في بيت أبيه. ولا صراع مع الله. ولا وعود إلهية. ولا تغيير لاسمه..
ولكن لما قال عيسو: أقوم وأقتل يعقوب أخي (تك 27:41), وهرب يعقوب من وجه أخيه, هنا بدأ يشعر بوجود الله في حياته.. وفي هروبه وضيقته رأي السلم الواصلة بين السماء والأرض, ورأي الملائكة صاعدة ونازلة عليها وسمع صوت الله يقول: ها أنا معك وأحفظك حنما تذهب, وأردك إلي هذه الأرض (تك28:10-15). وبدأت ليعقوب سلسلة من الخبرات الروحية في الحياة مع الله.
ونفس الوضع بالنسبة إلي يوسف الصديق..
لم يدخل في العشرة الإلهية كما ينبغي, وهو ابن مدلل في بيت أبيه له قميص ملون, وأحلام جميلة, تثير حسد إخوته وغيرتهم.. ولكن لما ألقي في البئر, ولما بيع كعبد, بدأ يختبر يد الله معه, كيف ينجح طرقه, وكيف يعزيه حتي وهو في السجن, وكيف يمنحه موهبة تفسير الأحلام, ويمنحه نعمة في عيني حافظ السجن والمسجونين, بل يمنحه نعمة في عيني فرعون نفسه والله أراد به خيرا (تك50:20).
أفضل أيامه الروحية, كانت وهو في الضيقة. أما لما صار وزيرا, فلم نسمع عنه حينئذ رؤي أو أحلاما بل كان رجل إدارة وسلطة, ولم تكن إرادة الرب مكشوفة له وقت مباركة ابنيه إفرايم ومنسي. كما كانت مكشوفة لأبيه يعقوب الذي عاش في الضيعة (تك 48:17-19).
ويونان النبي كانت أعمق روحياته وهو في بطن الحوت
حينما كان طليقا, كان معاندا للأمرالإلهي, متمسكا برأيه. أما حينما ابتلعه الحوت, وجازت فوقه التيارات واللجج, حينئذ صرخ من جرف الهاوية سمع الرب صوته. لما أعيت فيه نفسه, صلي يونان إلي الرب وهو في جوف الحوت, وقال حين أعيت في نفسي, ذكرت الرب, فجاءت إليك صلاتي.. بصوت الحمد أذبح لك, وأوفي بما نذرته (يون2:1, 7, 9).
وأمثلة لأنبياء وأبرار كثيرين
الثلاثة فتية تمتعوا بوجود الله معهم, وهو في آتون النار. ودانيال النبي شعر بعمل الله لأجله وهو في جب الأسود.
وبطرس الرسول لمس يد الله معه وهو في السجن (أع 12: 7,6) وكذلك القديس بولس أيضا (أع 16: 26,25). ويوحنا لم يبصر تلك الرؤيا العظيمة, إلا وهو في الضيقة, منفيا في جزيرة بطمس (رؤ 1:10,9).
وتلاميذ الرب أبصروا يده معهم لما اضطربت السفينة وهاجت الريح فاتاهم في الهزيع الأخير من الليل, وانتهر الرياح.
حقا, حينما لا توجد حلول بشرية تبصر يد الرب تعمل.
أحيانا, لما يرتفع الإنسان في مركزه, يختفي عمل الله من قاموسه ومن الجائز أن نجد في هذا القاموس كلمات الشهرة والمال والعظمة والمركز أما كلمة الله فتكون عزيزة.
ولكن حنيما تحل الضيقة تتعلق عيناه بالرب إلهه.
وهكذا كان بنو إسرائيل في تاريخهم القديم.
في فترات المتعة, كانوا ينسون الرب, بل كثيرا ما عبدوا الأصنام فلما كان الرب يدفعهم إلي أيدي أعدائهم, فيذلونهم, كانوا حينئذ يصرخون إلي الرب, فيرسل لهم من عنده من يخلصهم, كما يشرح لنا سفر القضاة, بل ما أعمق قول المرتل في هذه الخبرة: املأ وجوههم حزنا, فيطلبون وجهك يارب.
ربما في قوتنا نعتمد علي قوتنا وفي الشدة نختبر الرب.
يقول الرب: ادعني في وقت الضيق, انقذك فتمجدني.
إن اختبار عبور البحر الأحمر, كان في وقت الشدة.
كذلك ضرب الصخرة التي فجرت ماء, وكذلك السحابة المظللة.
إن أرملة صرفة صيدا, لم تختر الوجود مع الله وعشرته, إلا في وقت المجاعة, وحينما مات ابنها. هنا ظهر الله في حياتها. وبالمثل المرأة الشونمية لما مات ابنها أيضا..
إننا نتمتع بوجود الله في وقت الضيقة.. ونحس وجوده, ونطلب وجوده ونلمس وجوده.. وكذلك نتمتع بوجوده الإلهي في أوقات الصلاة والتأمل والعبادة.
2ـ أوقات العبادة والتأمل..
الأوقات الروحية مناسبة جدا للشعور بالوجود في حضرة الله. وهكذا ما كان يحسه آباؤنا القديسون في خلواتهم ووحدتهم. لذلك يتركون ضجيج العالم إلي البراري, حيث ينفردون وأحسوه في صلواتهم وتأملاتهم بالله. ويشعر بأنهم وجدوه هناك,
رؤيا يوحنا ورؤيا بولس:
في سفر الرؤيا, القديس يوحنا الحبيب, لم يجد الله في الضيقة فقط إنما يقول: كنت في الروح في يوم الرب (رؤ1:10) كان في حالة روحية, ملتصقا بروح الله, مرتفعا بقلبه إليه, في يوم مقدس.. وفي هذا الجو الروحي, رأي السماء مفتوحة, وأبصر عرس الله والقوات السمائية تسبحه. القديس بولس الرسول أيضا, يعطينا نفس الصورة أيضا في صعوده إلي السماء الثالثة. كان هو أيضا. في حالة روحية وصفها بقوله أفي الجسد أم خارج الجسد! لست أعلم, الله يعلم (2كو 12:2, 3).
إن الإنسان يحس وجود الله في الأوساط الروحية, عندما يلتصق قلبه بالله, وتتلامس روحه مع الله.
القديس غريغوريوس أسقف نيصص كان أثناء خدمته للقداس الإلهي, يبصر الروح القدس علي هيئة حامة وأحيانا كان الرب يعلن له من هو مستحق للتناول ومن هو غير مستحق..
وكثير من الآباء الكهنة أثناء القداسات يكونون في حالة روحية غير عادية يشعرون أثناءها بالوجود الفعلي مع الله.
هنا جو روحي خاص, من جهة الاستعداد لهذه الخدمة المقدمة, والاستعداد للتناول. وهيبة الهيكل والمذبح والذبيحة. وجو البخور والصلوات, والقيام الفعلي أمام الله.. كل ذلك يعطي شعورا خاصا يندر وجوده في أوقات أخري..
لذلك أنا أعجب من الذين يطلبون أن يسجل لهم أحد الآباء الكهنة قطعة من القداس في وقت يختارونه, إنه حينئذ سيسجل لحنا. ولا يقدم نفس الروح, شتان بين تسجيله اللحن في أي وقت, وتسجيله في وقت القداس الإلهي. في جو روحي خاص وفي حالة روحية خاصة! وفي شعور بالوجود أمام الله. بتأثير الذبيحة المقدسة..
بنفس المنطق أيضا نقول إن هناك فرقا جوهريا بين أن تسمع القداس الإلهي, وأنت في الكنيسة تعد نفسك للتناول. وأن تسمعه في بيتك من الإذاعة أو من جهاز تسجيل..
في وقت الصلاة والتأمل, يشعر الإنسان بالله يملأ قلبه, ويشعر بأن الله يحيط به, كما يشعر أنه واقف أمام الله يكلمه. انظروا كيف أن المسيح يقول: حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي, فهناك أكون في وسطهم. هذا الشعور بأن الله في وسطنا, هو شعور روحي يشعر به الإنسان في وقت الصلاة.
ويشعر أيضا بأن الملائكة حوله, وبأن آرواح القديسين أيضا تحيط به, بأن روحا عميقا في داخله يعطيه ما يقوله..
لهذا كانت لاجتماعات الصلاة قوتها وتأثيرها, ولهذا كانت ليالي الصلاة وسهراتها فاعلية عميقة داخل النفس وقوة غير عادية..
نتذكر أن تلاميذ الرب فيما كانوا يخدمون الرب ويصلون, كلمهم الروح القدس, وقال لهم: افرزوا لي برنابا وشاول (أع13:2).
وفي إحدي المرات وهم يصلون, تزعزع المكان من قوة الصلاة, أو من الوجود الإلهي أثناء الصلاة, وامتلأ المشتركون في الصلاة من الروح القدس (أع4:31).