المتابع لتطورات الحرب الروسية الأوكرانية وانزلاقها في مرحلة الحرب التدميرية البعيدة عن الأهداف العسكرية, لن يفوته أن الأهداف الخفية غير المعلنة وراء الإصرار علي استمرار هذه الحرب اللعينة هي أهداف أمريكية في الأساس تخطط لإنهاك روسيا اقتصاديا وعسكريا للحيلولة دون تطلعها للصعود إلي مرتبة القطب المؤهل للمشاركة في قيادة عالم الغد الذي بات محتما أن يخرج من مرحلة قيادة القطب الواحدـ وهو أمريكا ـ إلي مرحلة تعددية الأقطاب… والمؤسف أن نشاهد هذه الحرب التي أرادت أمريكا أن تدفع فيها أوكرانيا لتحارب عنها بالوكالة تتطور إلي اللجوء لأساليب التدمير لأجل التدمير وهو ما تابعناه من قصف أوكرانيا للجسر الرابط بين روسيا وشبه جزيرة القرم ـ بدون أي هدف عسكري مفهوم ـ وهو ما أدي إلي ردود أفعال هستيرية من جانب روسيا بقصف وتدمير مجموعة ضخمة من المنشآت والمرافق وشبكات البنية التحتية في أوكرانيا.. الأمر الذي بالقطع أخلف قدرا هائلا من الدمار والفوضي والرعب لدي المواطنين الأوكرانيين.
ولا نستطيع أن نعرف بالضرورة ماذا يقول المواطنون الأوكرانيون إزاء ذلك الدمار الهائل الذي يحيق ببلادهم ـ سواء من منطلق الوطنية التي تؤازر حكومتهم ظالمة أو مظلومة أو من منطلق الخوف من الاعتراض علي أفعال حكومتهم التي جرتهم إلي تلك الأهوال- لكن ما نعرفه بالضرورة أن هناك علي الجانب الآخر من أوروبا في بروكسل العاصمة البلجيكية مقر البرلمان الأوروبي أصواتا عالية تصرخ بالاعتراض علي التبعية العمياء للمجموعة الأوروبية وراء السياسة الأمريكية وما نتج عنها من ملامح كارثية تنبئ باستدراج دول المجموعة لمصير كانت في غني عنه ولم تكن تسعي إليه.
وفي هذا الصدد أسوق ما حملته وسائط التواصل من رسائل مصورة لكلمتين ألقيتا تحت سقف البرلمان الأوروبي تعبران عن ارتفاع وتيرة الهمهمات المعارضة لانسياق المجموعة الأوروبية وراء السياسة الأمريكية وما قد يؤدي إليه ذلك من نتائج وخيمة:
** كلمة السيدة كلير دالي عضوة البرلمان الأوروبي عن أيرلندة بتاريخ 5 أكتوبر الجاري:
الحرب في أوكرانيا تتفاقم بسرعة وبشكل مرعب, وكما أري لا يوجد أحد في هذه القاعة (قاعة البرلمان الأوروبي) يفعل شيئا للحيلولة دون ذلك, بل علي العكس معظم الأعضاء هنا يتقبلون هذا التفاقم علي أنه أمر واقع.. بينما علي جانب آخر وكما هو مألوف فإن الأصوات التي تنتقد الاندفاع الأهوج إلي الحرب تتعرض للهجوم وللإرهاب بغرض إسكاتها, ويتم اتهامها بالخيانة والتبعية والعمالة لنظام بوتين في روسيا وللكريملين في موسكو, وذلك أمر مفزع يدعو للشفقة خاصة وأنه تتبناه وتقوده الأحزاب الحاكمة في دول أوروبا… يحق لهذا البرلمان أن يخجل من تلك المناقشات لأن الحقائق يتم تشويهها وتقلب علي عكس الواقع, ويتم خداع الشعوب بأنها مهددة وأن من يجرؤ علي الاعتراض يتم اتهامه بالعمالة وفقدان المواطنة.
إن الاعتراض علي هذا الاندفاع الجنوني المطبق للحرب ليس ضد أوروبا.. وليس ضد أوكرانيا.. وليس انحيازا لروسيا.. بل إنه المنطق العاقل, فالطبقة العاملة الأوروبية لن تجني شيئا من جراء هذه الحرب, بل علي العكس لديها كل شيء تخسره.. أنا أجد أنه أمر مدعاة للسخرية أن جميع أولئك الذين يدعون لتسليح أوكرانيا لا يدعون أبدا لتسليح فلسطين أو اليمن.. أنا مثلكم جميعا أعترض علي كافة أشكال الحرب وأود أن تتوقف هذه الحرب اللعينة في أوكرانيا, ولا أشعر بأنني يجب أن أعتذر عن موقفي هذا ولا أن أكون كبش فداء له.
** كلمة السيد جوردان بارديللا, سياسي فرنسي وعضو البرلمان الأوروبي, بتاريخ 14 سبتمبر الماضي:
ها نحن الآن نتساءل أين وصلنا؟.. لقد بلغ الأوروبيون بابا مسدودا.. إذا كان إعلان حالة الطوارئ الخاصة بالطاقة اليوم بسبب حرب أوكرانيا فالحقيقة أنه بسبب أخطائكم المتكررة التي ندفع ثمنها اليوم.. ينطبق عليكم تماما المثل الفرنسي الجحيم مرصوف بالنوايا الحسنة..
أردتم الخروج من التبعية للطاقة الأحفورية فقمتم بوضعنا بين مخالب كل من روسيا وأمريكا والصين وممالك الدول الخليجية… زعمتم جعل اقتصادنا خاليا من غاز الكربون, لكن ها نحن نعيد فتح مناجم الفحم بسبب حربكم السخيفة وغير المنطقية لمحاربتكم الطاقة النووية تحت ضغط المدافعين عن الطبيعة.. أردتم تدمير الاقتصاد الروسي لكنكم أعطيتم روسيا فرصة مضاعفة إيراداتها من الطاقة.. تزعمون الدفاع عن الطبيعة وأنتم تستوردون الغاز الصخري من أمريكا.. تزعمون الدفاع عن القيم الأوروبية وأنتم تركعون أمام أذربيجان التي تقتل سكان أرمينيا ولا تفعلون شيئا لأنكم تريدون طاقتهم.. كنتم تروجون لمزايا أوروبا الاجتماعية لكن ها أنتم اليوم تعدون لتقنين حصص السلع لملايين الفرنسيين والأوروبيين المذعورين من تحديات الشتاء القادم.. بسبب غموضكم وتضارب قراراتكم وتخليكم عن سيادتكم ها أنتم تدفعون شعوبنا ومؤسساتنا إلي حافة الهاوية وإلي مخاطر جمة كنا نظن أنها تنتمي إلي الماضي… يجب أن تنتبهوا إلي أن المواطنين في كل دول أوروبا غاضبون وليس من المستبعد أن يقدموا علي مساءلتكم بصرامة علي سياساتكم تلك.. ماذا فعلتم بالحلم الأوروبي؟
*** هذه ملامح جادة تشير إلي موجات الغضب والاحتجاج التي تعم شعوب أوروبا والتي لا تشير بالضرورة إلي مباركة هذه الشعوب لتبعية حكوماتها للسياسات الأمريكية… فماذا تحمل لنا الأيام؟