مثلت اللغة العربية, ومنذ أن عرفها المصريون مع دخول العرب مصر, في أواسط القرن السابع الميلادي, ثم التحول الكامل إليها في مرحلة لاحقة, واحدا من عوامل الوحدة الوطنية وتشكيل الهوية والفهم المشترك بين المصريين جميعا, فاللغة العربية أحد مقومات الهوية المصرية, وهي الوعاء الذي يحمل الثقافة والفكر ومجمل منظومة القيم. وقد ساهم المصريون في إثراء اللغة العربية عبر الكتابات الأدبية رفيعة المستوي والترجمة من اللغات الأخري إليها.
ولم يكن غريبا أن تمثل قضية التعليم, وقت الاحتلال البريطاني لمصر الذي وقع عام 1882م, معركة من معارك الحركة الوطنية ومعارك المثقفين ضد الاحتلال, بتعبير الدكتور محمد أنيس في كتابه تطور المجتمع المصري من الإقطاع إلي ثورة 23 يوليو سنة 1952, ومن بين قضايا التعليم الفرعية مسألة الحفاظ علي اللغة العربية والدعوة لحمايتها, حيث عملت سلطات الاحتلال البريطاني علي إضعاف اللغة العربية لصالح اللغة الإنجليزية, رغبة في خدمة مصالح سلطات الإنجليز في مصر.
ويذكر أنه في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, كانت هناك تحديات كثيرة واجهتها اللغة العربية, وحاولت الصمود أمامها, مثل محاولة إضعافها بنشر اللغات الإنجليزية والفرنسية بدلا منها, خاصة مع تأسيس المدارس الأجنبية وانتشارها في القاهرة والإسكندرية وعدد من محافظات الوجهين القبلي والبحري, بالإضافة إلي دعوة البعض للكتابة باللهجة العامية, والدعوة لكتابة الكلمات العربية بحروف لاتينية!!.. ولعل نفس التحديات تواجهنا اليوم, خاصة مع تعاظم التأثيرات الخاصة بشبكات التواصل الاجتماعي, وتحديات اقتصادية تواجها صناعة الكتاب في ظل ضعف الاهتمام بالقراءة واقتناء الكتب, ما أثر علي دور النشر وحركتها.
وعبر التاريخ شهدت صفحات الصحف الكثير من الكتابات التي دافعت بقوة عن اللغة العربية, ودعت إلي الاهتمام بها وحمايتها من أية مخاطر وتهديدات. ومن وقائع التاريخ أنه في احتفال خاص بعيد النيروز (رأس السنة القبطية وعيد الشهداء) سنة 1919م, عقب ثورة المصريين آنذاك ضد الاحتلال البريطاني, خطب محمد عاطف بركات, وكان مما قاله في خطبته نحن شعب واحد لأن لغتنا واحدة, فالتفاهم بيننا تام وقد اتحدنا فيما تفيضه علينا اللغة من العلم والأدب وما تكيف به نفوسنا من الشعور والعواطف وما تكسبنا إياه من الأخلاق والفضائل, وهو يضيف نحن شعب واحد بسبب وحدة اللغة مشتركون في كل شيء واسطته اللغة من العلم والحكمة والذوق والأدب وطرق البحث والتفكير.
ويذكر أن الأستاذ الأرشيدياكون حبيب جرجس- مدير المدرسة الإكليريكية ومؤسس خدمة مدارس الأحد- قد أصدر كتابا مهما عنوانه الوسائل العملية للإصلاحات القبطية: آمال وأحلام يمكن تحقيقها في عشرة أعوام, سنة 1942م, بغرض إصلاح الكنيسة القبطية وتنميتها وتطوير أنشطتها, وقد تحدث- ضمن ما تحدث- عن الإصلاح في مجال الجمعيات الأهلية الخيرية القبطية, واقترح علي المواطنين الأقباط, كنيسة وشعبا, إنشاء عدة جمعيات من بينها (جمعية لدوام اتحاد العنصرين)..
يقول في كتابه: لا يستطيع أن ينسي أحد الأحياء ما رآه من مظاهر الاتحاد العجيب المتين, الذي ظهر بين عنصري الأمة- القبط والمسلمين- أثر النهضة الأخيرة في طلب الاستقلال, وكيف كان الصليب والهلال مرفوعين علي الأعلام رمزا لهذا الاتحاد, وما قدمه كل من الفريقين من التضحيات علي السواء لخير مصر. وكيف وقف شيوخ المسلمين في الكنائس, والقسوس في الجوامع, منادين بتمكين هذه الوحدة, حتي أصبح هذا الاتحاد مضرب الأمثال في الشرق كله. وهو يري أن ‘هذا الاتحاد أمر طبيعي لا غرابة فيه لأن القبط هكذا نشأوا وتربوا علي محبة أوطانهم وإخوانهم في الوطنية, وذلك للروابط التي تربطهم بعضهم ببعض ومنها: (1) الرابطة الجسدية رابطة الدم, فجميعهم أبناء أب واحد وأم واحدة, ودماؤهم جميعا واحدة. (2) الرابطة اللغوية إذ كلهم يتكلمون لغة واحدة. (3) رابطة المصلحة فإن مصلحة المسلمين والأقباط واحدة وغاياتهم لمجد وطنهم واحدة. ويضيف أنه لهذا يجب المحافظة علي هذه الوحدة, والعمل علي تمكينها وعدم السماح لأي كان أن يعمل علي فصمها وتعكير صفائها.
أذكر في هذا المقام أنني شاركت مؤخرا في مؤتمر إقليمي حمل عنوان اللغة العربية ركن أساسي لحوار الحضارات, يوم الجمعة 7 أكتوبر, نظمه المركز الدولي لعلوم الإنسان التابع لمنظمة اليونسكو, بالتعاون مع الجامعة اللبنانية الأمريكية, في مدينة جبيل اللبنانية, شارك فيه نخبة من المفكرين والكتاب والباحثين من لبنان ومصر والعراق والكويت والمغرب, تحت رعاية وزارة الثقافة اللبنانية. وقد انتهينا إلي تأكيد مكانة اللغة العربية ودورها في التفاعل الحضاري وإبراز التعددية الثقافية, وأهمية العمل علي حماية اللغة العربية وتعزيزها والحفاظ عليها, الأمر الذي يتطلب وقفة حقيقية وجادة, ولا يعني الأمر إغفال اللغات الأجنبية الأخري, إذ أن تعلم العربية واتقانها علي نحو جيد, إنما يساعد علي نمو وازدهار حركة الترجمة منها وإليها, ومن ثم تحقيق التواصل الفعال مع العالم من حولنا. علي هذا النحو فإننا أمام مسئولية مشتركة بين كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية, بدءا من الأسرة, مرورا بالمؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية والفنية والإعلامية والتشريعية ومنظمات المجتمع المدني.
وتبقي تحية واجبة للقائمين علي المؤتمر, الدكتور ميشال معوض رئيس الجامعة البنانية الأمريكية, والدكتورة دارينا صليبا- مديرة المركز الدولي لعلوم الإنسان- اليونسكو بيبلوس, والدكتور الأب ميخائيل قنبر, والأعزاء فانيسا وبديع ورين, وكل فرق العمل.