وأعود مرة أخري لأرصد ما يفكر فيه ويثقل به ويكتبه المحسوبون علي الفكر الغربي, لأن له مدلولات خاصة تتجاوز ما يمكن أن يكتبه ناقد أو معارض خارجي لا ينتمي إلي ذلك الفكر, كما أنه يؤكد ما يؤرقنا في الكثير من مجالات الحياة حين نبحث عن القيم والمثل والمبادئ والأخلاقيات التي طالما بشرنا بها الفكر الغربي فلا نجدها… اليوم أستعرض ما كتبه أحد رموز الفكر الغربي الأمريكي عام 2001 متصديا لتشريح واقع ما آل إليه المجتمعان الأوروبي والأمريكي من خلال كتابه الذي يحمل عنوان موت الغرب.
إنه الكاتب والمفكر والسياسي الأمريكي باتريك جيه بوكانان الذي ولد عام 1938 والذي عمل مستشارا لثلاثة رؤساء أمريكيين سابقين هم ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد ورونالد ريجان, وهو كاتب صحفي دائم في عدد من الصحف الأمريكية ومؤسس لثلاثة من أشهر برامج التليفزيون في قناتي إن. بي. سي و سي. إن. إن الأمريكيتين.. وله مؤلفات عديدة منها يوم الحساب, حالة طارئة, عندما يصير الصواب خطيئة, الخيانة العظمي علاوة علي الكتابين الشهيرين جمهورية لا إمبراطورية و محق منذ البداية اللذين كانا من أكثر الكتب مبيعا في الولايات المتحدة.
الكتاب الذي نحن بصدده موت الغرب يتوجب علي جميع النخب في العالم الاطلاع عليه, فهو يبشر بموت وانتهاء الغرب, وينبه المؤلف في الكتاب إلي أن الموت الذي يلوح في أفق الغرب هو في الواقع موت مزدوج:
ـ موت أخلاقي بسبب السقوط الذي ألغي كل القيم التربوية والأسرية والأخلاقية التقليدية.
ـ موت ديموجرافي وبيولوجي ناتج عن النقص السكاني المؤدي إلي الموت الطبيعي.
ويقول المؤلف إن ذلك يظهر بوضوح في السجلات الرسمية التي تشير إلي اضمحلال القوي البشرية في الغرب وإصابة ما يتبقي منها بشيخوخة لاشفاء منها إلا باستقدام أعداد متزايدة من المهاجرين الشباب, أو القيام بثورة حضارية مضادة تعيد القيم الدينية والأخلاقية إلي مكانتها التي كانت راسخة من قبل.
ويحذر الكاتب من أن الموت المقبل مريع ومخيف لأنه مرض عضال ووباء قاتل من صنع أيدينا وأفكارنا, وليس بسبب أي عوامل خارجية, الأمر الذي يجعله أسوأ كثيرا وأشد فتكا من الوباء الأسود الذي أودي بحياة ثلث سكان أوروبا في القرن الرابع عشر, فالوباء الجديد لا يقتل إلا الشباب مما يحول الغرب عموما وأوروبا بشكل خاص إلي قارة للعجائز.
ويؤكد الكاتب أن رؤيته ليست ناجمة عن تخمينات أو توقعات أو احتمالات, إنما هي حقيقة واقعة صادمة تتحدث عنها الأرقام, فوفقا للإحصائيات الحديثة هبط معدل الخصوبة عند المرأة الأوروبية إلي طفل واحد, علما بأن الحاجة تدعو إلي معدل طفلين كحد أدني لتعويض وفيات السكان, دون الحديث عن زيادة عددهم. وإذا بقيت معدلات الخصوبة الحالية علي ما هي عليه فإن سكان أوروبا البالغ تعدادهم 728 مليون نسمة بحسب إحصاء عام 2000 سوف يتقلصون إلي 207 ملايين في نهاية القرن ..21 وفي المقابل, بينما تموت أوروبا لنقص المواليد يشهد العالم الثالث في الهند والصين ودول أمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي انفجارا سكانيا لم يسبق له مثيل يبلغ 80 مليون نسمة كل عام, ومع حلول منتصف القرن الواحد والعشرين ـ عام 2050 ـ سيبلغ مجمل تعدادهم أربعة مليارات نسمة, وهكذا سوف يصبح كابوس الغرب حقيقة وتصبح أوروبا بكل بساطة ملكا لهؤلاء.
ويستطرد المؤلف: الأرقام التفصيلية مخيفة عندما تشير إلي النقص السكاني بعد 50 عاما من الآن:
ـ في ألمانيا سيهبط تعداد السكان من 82 مليونا إلي 59 مليون نسمة وسيشكل المسنون الذين تجاوزوا 65 عاما أكثر من ثلث تعداد السكان.
ـ في إيطاليا سيهبط تعداد السكان من 57 مليونا إلي 41 مليون نسمة وسيشكل المسنون 40% من تعداد السكان.
ـ في إسبانيا سيهبط تعداد السكان بنسبة 25%.
ـ في روسيا سوف تتناقص القوي البشرية ـ من 147 مليونا إلي 114 مليون نسمة.
ـ في اليابان سيهبط معدل المواليد إلي النصف مقارنة بعام 1950 ويتناقص تعداد السكان من 127 مليونا إلي 104 ملايين نسمة.
ويتساءل المؤلف لماذا توقفت أمم أوروبا وشعوبها عن إنجاب الأطفال واستسلمت لمصير تراجعها السكاني وما ينبئ معه بأفولها ثم اختفائها بهذه اللامبالاة؟..
إن الإجابة تكمن في النتائج المهلكة للثقافة الجديدة السائدة في الغرب وما جرته من موت أخلاقي يصنع الموت البيولوجي… فانهيار القيمة الأساسية في المجتمع وهي الأسرة وانحسار الأعراف الدينية التي كانت فيما مضي تشكل سدا منيعا أمام البدع الكارثية لمنع الحمل والإجهاض والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج, بل تشجع العلاقات الشاذة المنحرفة بين أبناء الجنس الواحد, كل هذا ساهم بشكل مخيف في تدمير الخلية المركزية للمجتمع وأساس استمراره وهي الأسرة.
وها هي الأرقام تؤكد هذا الواقع المرعب:
ارتفع الرقم السنوي لعمليات الإجهاض في الولايات المتحدة من 6000 حالة سنويا عام 1966 إلي 600 ألف حالة عام 1976 ـ أي مائة ضعف ـ بعد أن تم تقنين السماح بالإجهاض واعتبار عمليات قتل الأجنة حقا للمرأة يحميه الدستور, وبعد عشر سنوات ـ أي في عام 1986 ـ وصل الرقم إلي 1.5 مليون حالة إجهاض في العام الواحد.
نسبة الأطفال غير الشرعيين تبلغ حاليا 25% من إجمالي عدد الأطفال الأمريكيين ويعيش ثلث أطفال أمريكا في منازل يغيب عنها أحد الأبوين ـ إما بدون الأب كما في أغلب الحالات ـ أو بدون الأم.
بلغت معدلات الانتحار بين المراهقين الأمريكيين ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام .1960
بلغ عدد مدمني المخدرات ـ ناهيك عن عدد المتعاطين ـ في الولايات المتحدة ستة ملايين شخص.
تشير الإحصائيات إلي تناقص شديد في أعداد الشبان والشابات الراغبين في الزواج في أمريكا.
وذلك ليس غريبا, فمن الطبيعي لمجتمع يسمح بالحرية الجنسية الكاملة ويتيح المساكنة بين الرجل والمرأة دون أي رابط شرعي أو قانوني في بيت واحد, ومع تراضي الطرفين بذلك أن تكون هذه النهاية الحتمية, فالرجل يخشي استيلاء الزوجة علي نصف ثروته في حالة الطلاق والمرأة تقبل المساكنة دون زواج في مقابل رجل يقف معها ويحميها.. ناهيك عن استيفاء حاجاتهما البيولوجية.
أما عن قضية الشذوذ الجنسي فحدث ولا حرج, فمع سريان قانون الزواج بين أبناء الجنس الواحد بلغت الأرقام حدا لم يكن ممكنا مجرد تخيله في السابق.
ويخلص المؤلف إلي القول: إن هذه كلها أرقام وإحصاءات تشير إلي مجتمع منحط وحضارة تحتضر مآلها الموت.. إن بلدا مثل هذا لا يمكن أن يكون حرا, فلا وجود للحرية دون فضيلة ولا وجود للفضيلة دون إيمان.. التدين والإيمان ليسا من الرفاهية وإنما هما أساس الحفاظ علي الجنس البشري واستمرار الخليقة التي حباها الخالق بكل الإكرام.
*** هذه حقيقة موت الغرب… فهل يتعظ الشرق؟