رحلت الملكة إليزابيث الثانية, الجالسة علي عرش بريطانيا أو المملكة المتحدة -إنجلترا وإسكوتلندا وويلز وأيرلندة الشمالية- وممثلة التاج البريطاني في 15 حكومة خارج حدود المملكة المتحدة حيث يحكم التاج البريطاني رمزيا ومن بعدها في 36 دولة أعضاء مجموعة دول الكومنولث… غابت عن عالمنا أيقونة راسخة استمرت بحضورها في حياة أبناء جيلي منذ عام 1952 وعبر 70 عاما حتي رحلت عن دنيانا الأسبوع قبل الماضي, محطمة جميع الأرقام القياسية للجلوس علي عرش الحكم في تاريخ بريطانيا, وقد يكون في تاريخ الملكيات في العصر الحديث.
بالفعل أبناء جيلي لم يعرفوا غير الملكة إليزابيث الثانية جالسة علي عرش المملكة المتحدة -2022/1952- سمعوا عن تاريخ من سبقوها في الجلوس علي العرش وعلي رأسهم الملكة فيكتوريا التي جلست علي العرش من 1837 حتي مماتها في عام 1901 -لمدة 63 عاما- ولم يتصوروا أنها سوف تكسر الرقم القياسي لترسخ رقما غير مسبوق في السلطة… لكن دعوني أوضح أنها ليست 70 عاما في القبض علي مقاليد السلطة, إنما هي 70 عاما في احترام مبدأ الملك يملك ولا يحكم وهو المبدأ الذي انفردت به بريطانيا العظمي بين دول العالم واضعة نموذجا عجيبا يحتذي للجمع بين الملكية والديمقراطية -الملكية علامة علي استقرار السلطة والديمقراطية علامة علي تداول السلطة وحكم الشعب… نموذج فريد في عالمنا يستحق تسجيله وتوثيقه عبر أنظمة الحكم في تاريخ الدول.
الآن تدور عجلة الزمن وترحل الملكة إليزابيث الثانية وتتأهب المملكة المتحدة للانتقال إلي مرحلة تالية في تاريخها بانتقال العرش إلي ابنها ووريثها وولي عهدها الأمير تشارلز الذي يحلف اليمين بالجلوس علي العرش بلقب الملك تشارلز الثالث ملك المملكة المتحدة… وتعيد سائر دول مجموعة الـ15 التابعة للتاج البريطاني ومن بعدها مجموعة الـ36 أعضاء الكومنولث تدبر أمرها في تبعية التاج البريطاني أو الانشقاق عن تلك العلاقة التاريخية والانصياع للدعوات بتأسيس جمهوريات مستقلة منسلخة عن التاج البريطاني.
وأيا كان السيناريو الذي سوف نعايشه, تظل الملكة إليزابيث الثانية أيقونة راسخة بتاريخها الناصع وباحترامها لأصول الدستور البريطاني وعدم تغولها علي السلطة التي منحها إياها ذلك الدستور فاستحقت عن جدارة محبة واحترام شعبها الذي تفانت في خدمته… وبالتالي استحقت تطبيق الدستور الذي يؤهلها عند رحيلها لتفعيل المعايير الآتية:
** عند وفاة الملكة يتصل سير إدوارد يونج السكرتير الخاص بالملكة برئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس ويخبرها بالجملة التالية: جسر لندن قد سقط وعلي الفور تبدأ رئيسة الوزراء بتفعيل عملية وفاة الملكة بإبلاغ الخبر إلي 15 حكومة خارج المملكة المتحدة حيث يحكم التاج البريطاني رمزيا ومن بعدها 36 دولة أعضاء مجموعة دول الكومنولث.
** علي بوابة قصر باكنجهام يقوم خدم القصر بتعليق إعلان الوفاة وتعلن حالة الحداد الرسمي لمدة عشرة أيام.
** اليوم الأول: حدادا علي وفاة الملكة… البنوك وبورصة لندن تغلق أبوابها بالإضافة إلي المتاجر الرئيسية.. محطات الـبي.بي.سي تعلن الحداد ويتحول لونها من الأحمر إلي الأسود ويرتدي جميع مذيعيها اللون الأسود وتتولي إذاعة برامج تأبين الملكة الراحلة.
** اليوم الثاني: الأمير تشارلز نجل الملكة إليزابيث وولي العهد يلقي كلمته إلي الشعب البريطاني بصفته الملك الجديد فيقول: أتحدث إليكم بمشاعر الحزن, كانت والدتي الحبيبة طيلة حياتها مصدر إلهام لي ومثالا يحتذي لكل عائلتي- أوفت الملكة بوعدها للشعب البريطاني بالخدمة مدي الحياة- رأينا حبها واحترامها للتقاليد إلي جانب احترامها للتقدم وكانت لها رؤية لا تخطئ في رصد الأفضل في الناس- أشارككم شعور الخسارة بلا حدود.. إلي والدتي العزيزة: بينما تبدأ رحلتك إلي السماء للانضمام إلي والدي أقول لك شكرا.
** اليوم السادس: يتم نقل جثمان الملكة من قصر باكنجهام إلي كنيسة وستمنستر حيث يبقي لمدة أربعة أيام, وفي هذا المكان يودعها أفراد العائلة الملكية وسائر الشخصيات البارزة, وبعد ذلك يتم السماح للعامة وأفراد الشعب بإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليها.
** اليوم العاشر: تدق ساعة بيج بن في التاسعة صباحا بصوت مكتوم بعد تغطية مطرقة الجرس بها, وعند الساعة الحادية عشرة صباحا تدق ساعة بيج بن ويسود الصمت جميع أرجاء المملكة; حيث تجري الصلاة الجنائزية علي الملكة الراحلة في كنيسة وستمنستر. ثم يتم نقل الجثمان إلي كنيسة القديس جورج بقصر وندسور حيث دفن والدا الملكة, الملك جورج السادس والملكة الأم, وحيث من المقرر أن تدفن الملكة إليزابيث الثانية إلي جوار زوجها الراحل الأمير فيليب.
** الجدير بالذكر أن الملكة إليزابيث الثانية عاصرت 12 رئيس وزراء, 20 دورة أوليمبية, 6 بابوات للكنيسة الكاثوليكية, وتعد هي حجر الأساس لمجموعة دول الكومنولث, كما ترأست نحو 600 منظمة خيرية ولعبت دورا محوريا في علاقات بريطانيا بدول كثيرة عبر العالم.
** من المقرر أنه في غضون سنة من تاريخ وفاتها سوف يقام الحفل الرسمي لتتويج الملك تشارلز الثالث علي عرش المملكة المتحدة… وسوف يواكب ذلك طباعة أوراق بنكنوت جديدة تحمل صور الملك الجديد, لتحل تدريجيا محل الأوراق التي تحمل صورة الملكة الراحلة, ونفس الشيء سيتم عمله بالنسبة لطوابع البريد وجوازات السفر وأزياء وعلامات الشرطة والجيش… كما سيتم تغيير السلام الملكي من الرب يحفظ الملكة إلي الرب يحفظ الملك.
*** أكتب هذا المقال قبل مراسم التوديع والصلاة الجنائزية علي الملكة إليزابيث الثانية ملكة إنجلترا… وأنا متأكد أن هذه المراسم سوف تسيطر عليها كل مشاعر التوقير والاحترام والتبجيل والصمت, تلك المشاعر الرهيبة المحترمة التي طالما سيطرت علي هذه المناسبات في المملكة المتحدة وغيرها من دول العالم الغربي… عاصرت في السابق مراسم توديع كل من السير وينستون تشيرتشل رئيس وزراء بريطانيا, والليدي ديانا الزوجة السابقة للأمير تشارلز, والملكة الأم والدة الملكة إليزابيث, والأمير فيليب زوج الملكة إليزابيث… وفي كل تلك المناسبات لم أستطع أن أمنع نفسي من أن أكتب: لماذا لا نستطيع أن نحزن مثلهم؟