حينما تقفز جملة جلسات الصلح العرفي إلي ذهني لا أتذكر إلا القهر, والإذعان, والإجبار علي قبول ما يرفضه المنطق ويضرب مبدأ المواطنة في مقتل. فقد يفلح الصلح العرفي في النزاعات المالية التي تنتهي بتعويض مادي, أو وقف المعارك القبلية, وهذا رائج في صعيد مصر والمناطق الحدودية, لكن حينما يتعلق بالاعتداءات الطائفية, فهو يقدم للمجتمع نموذجا من رضوخ الطرف الأضعف لقهر الأكثرية العددية, ولأن القوي الأمنية تنظم هذه الجلسات التي تضم قيادات أمنية وكبار عائلات, ورجال دين, يشعر المجني عليه بقهر لا يقل عن قهر مساومته علي مواطنته مقابل الصلح مع الجاني, فينصاع ويبقي الغضب مدفونا تحت تبويس اللحي, والنتيجة استمرار الاعتداءات لأن تلك الجلسات توفر غطاء مجتمعيا يبارك الافلات من العقاب, ومعول هدم يسقط هيبة الدولة وسيادة القانون.
والتاريخ القريب يشهد أن الصلح العرفي لم يستطع حماية حقوق الأقباط, ولم يلتزم المتطرفون بأحكامه في بعض المناطق علي سبيل المثال لا الحصر عدد من قري المنياالبدرمان, نزلة عبيد, نزلة عبدالمسيح, بني أحمد, عزبة يعقوب بباوي, الماريناب أسوان ما بين أعوام 2011 ـ .2014 وكثيرا ما انتهت الجلسات إلي قرارات مجحفة للأقباط مثل التهجير القسري وإنزال الصلبان من فوق كنيسة ما, أو عدم استكمال أعمال البناء أو الترميم… إلخ, ولن يفيد تسطير تفاصيل الماضي سوي اجترار الآلام, لذلك أكتفي بذكر واقعتين حديثتين, الأولي شهدتها قرية سبك الأحد بمركز أشمون في محافظة المنوفية, في شهر أبريل الماضي, علي خلفية صفع صيدلاني يدعي علي أبو سعدة, لامرأة مسيحية تدعي نيفين صبحي, مرتين علي وجهها داخل صيدليته, لأنها ترتدي ما اعتبره ملابس غير محتشمة في شهر رمضان.
بحسب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ـ الباحث إسحق إبراهيم ـ لم يذهب هذا الاعتداء لأروقة المحاكم, وانتهي بجلسة صلح عرفية مع المعتدي بحضور نائب برلمان وعمدة القرية ومسئول أمني وبعض القيادات الدينية, قدم الصيدلاني فيها اعتذارا, وغرمته الجلسة العرفية مئة ألف جنيه, وتنازلت نيفين عن محضر الواقعة. ثم أظهرت الصورة ـ التي التقطت للإعلان عن النهاية السعيدة ـ المجني عليها, وهي منكسة الرأس في حالة من القهر والانكسار بينما وقف المعتدي والمشاركون إلي جوارها, وارتسمت علي وجوههم ملامح الانتصار.
الواقعة الثانية ما شهدته قرية البرشا بالمنيا من اشتباكات بين مسلمين ومسيحيين في نوفمبر 2020 علي خلفية اتهام شاب بمشاركة منشور علي صفحته في فيسبوك, اعتبر مسيئا للإسلام, فتظاهر العشرات مرددين هتافات عدائية تحريضية تجاه المسيحيين, كانت النتيجة إصابة سيدة مسنة بحروق متفرقة, وحرق وتكسير وإتلاف ممتلكات لأقباط ومحاولة الاعتداء علي إحدي الكنائس, وتم الصلح العرفي, ثم أخلت النيابة العامة سبيل المقوبض عليهم من الجانبين, فيما عدا الشاب المتهم بنشر البوست, فما الرسالة المطلوب وصولها للمواطن؟
ياسادة الصلح العرفي ظالم يسير طبقا لهوي الضلع الأقوي وثقافته وميله الشخصي, لا يوافق الجمهورية الجديدة, ولا يصلح مع الاعتداءات الطائفية, وعلي مدار سنوات طويلة لم يفلح في حماية حقوق الأقباط, لم يأت بحق مظلوم, ولم يداو المفزوعين من الصغار المقذوفين بالطوب بسبب هويتهم الدينية عند اندلاع نوبات العقاب الجماعي, لم ينجح في إسكات صرخات النساء وسط النيران وبيوتهم تحترق وأسرهم تتشرد, ولم ينزع الإحساس بالغبن من القلوب, بينما نجحت القبضة الأمنية وتطبيق القانون, في ملفين شائكين هما الاعتداء علي الكنائس واختفاء القاصرات, فتوقفت الاعتداءات علي الكنائس بشكل ملحوظ مع نهاية عام 2018, وتمت إعادة الفتيات والنساء المختفيات إلي ذويهم, فما الداعي للجلسات العرفية والحل بين أيادينا؟