بقلم: م. منير وصفي بطــرس
باحث في موسيقى الألحان القبطية
مـدرس مــــادة اللــــحن الكنــــسي
بمعــــهـــد الرعـــــاية والتـــــربيـة
في المقال السابق تكلمتُ عن الثيئوتوكيات بصورة عامة وعن جذورها التاريخية، وعن موقعها في التسبحة السنوية، ثم ألقيتُ الضوء على موسيقية الثيئوتوكيات الأدام والواطس، من حيث المقام الموسيقي وتقسيم مقاطعهم اللغوية والموسيقية، وفي هذا المقال أستكمل معك أيها القارىء العزيز موضوع الثيئوتوكيات، ولكن من حيث دراسة ثيئوتوكية بعينها كمثال لهذه النوعية من التسابيح في كنيستنا القبطية، حيث ندرس الثيئوتوكية الواطس السنوية ليوم الجمعة.
والثيئوتوكيات هي عمل أدبي قبطي من أعمال الكنيسة القبطية الأورثوذكسية، يحمل الإيمان بأسلوب بلاغي عميق ومُصاغ على هيئة مقاطع ذات إيقاع موزون، إمتد تاريخها إلى أكثر من ألف عام، وهي المنبع الذي يحمل داخلها إيمان الكنيسة بتجسد وتأنُس ابن الله من العذراء مريم، وفيها نمجدها كوالدة الإله التي بسببها جاء رب المجد وحل في أحشاءها مُقَدِماً لنا أعظم عطية وهي خلاصه العظيم الذي أعاد الإنسان مرة أخرى إلى الفردوس.
التركيب اللغوي للثيئوتوكية:
والثيئوتوكيات تتكون من مجموعة من القطع، وكل قطعة تحوي عدداً من الأرباع (كل ربع عبارة عن أربع عبارات)، كذلك يُوجَد مرد يتكرر في آخر كل قطعة، ولكل ثيئوتوكية من ثيئوتوكيات الأسبوع مرد خاص مختلف يتناسب مع فكرة كل ثيئوتوكية.
وثيئوتوكية الجمعة هي أصغر ثيئوتوكيات التسبحة السبعة، وهي عبارة عن سبع قطع تحوي داخلها عشرين ربعاً، بالإضافة للمرد الذي يقال في ختام كل قطعة.
ثيئوتوكية يوم الجمعة تاريخياً:
إن القطعة الرابعة من ثيئوتوكية الجمعة تُعتبر المفتاح التاريخي لها،حيث أن الرُبع الذي يقول (المدينة النفسية التي سكن فيها العلي الجالس على مركبة الشاروبيم) مأخوذ نصه من عظة باللغة القبطية للقديس ثيئوفيلوس، ونَص هذه العظة محفوظ في نيويورك، وفي نفس القطعة نجد رُبعاً آخر (مسك ثدييكِ وأنت أرضعتيه اللبن لأنه إلهنا ومخلص كل أحد)، وهذا النص يُشبه عظة محفوظة بالمتحف القبطي مكتوبة على جدار حائطي من دير أنبا إرميا بسقارة،وتاريخه من القرن السابع أو الثامن الميلادي، مما يجعلنا نستنتج أن هذه الثيئوتوكية يصل عمرها إلى أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان.
طقس الأداء لهذه الثيئوتوكية:
في النظام الطقسي للأداء يتناوب كل خورس (مجموعة مُسَبِحة) الأداء، مابين الخورس القبلي (جهة الجنوب) والخورس البحري (جهة الشمال)، وهذا الأسلوب يسمى “بالأنتيفونا” ((Antiphonal singing، ويذكر المايسترو الفنان مهندس جورج كيرلس في دراسته عن هذا الأسلوب: أنه أحد الأساليب الأربعة للأداء، وكان أول ذِكر في العهد القديم ماقيل في نبوءة إشعياء حين رأى مجد الرب “السيرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة باثنين يغطي وجهه وباثنين يغطي رجليه وباثنين يطير وهذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض” (إش 6: 2، 3)،وذُكِرَ أيضاً في سفر نحميا “وأصعدتُ رؤساء يهوذا على السور وأقمت أيضاً فرقتين من المرتلين بالحمد، فانطلقت واحدة في موكب يميناً في اتجاه باب الدمن…..وسارت الفرقة الثانية من المرتلين بالحمد مقابلهم في موكب” (نح12: 31، 38)، وفي قصة دخول السيد المسيح أورشليم ذَكَرَ القديسان متى ومرقس الرسولان أن الجماعة التي خرجت لاستقباله قسمت نفسها إلى خورس يمشي أمام المسيح وخورس يمشي وراءه مسبحين قائلين “أوصنا لابن داود مبارك الآتي باسم الرب أوصنا في الأعالي (مت21: 9) (مر11: 9).
وبعض العلماء يقولون أن أصل “الأنتيفونا” أن بطرس الرسول رآها في رؤيا، وآخرون قالوا أن هذا الأسلوب أُدخِلَ إلى كنيسة أنطاكية عن طريق القديس أغناطيوس في القرن الأول الميلادي، الذى رأى رؤيا أن الملائكة ينشدون بالتبادل ترانيم الثالوث وهذا يتوافق مع ماذُكِر في نبوءة إشعياء، ثم انتقل هذا الأسلوب من أنطاكية إلى فلسطين ثم إلى مصر، والقديس باسيليوس الكبير ذكر هذا الأسلوب في خطابه إلى كهنة قيصرية حيث يقول “يذهب الشعب إلى بيت الصلاة في الليل …..وأخيراً ينتقلون من الصلاة ليبدأوا بتسبيح المزامير وذلك بأن ينقسموا أولاً إلى فريقين ليرددوا التسابيح مقابل بعضهم البعض.
موضوع وأفكار ثيئوتوكية الجمعة:
القطعة الأولى: مكونة من رُبعين، نعطي للعذراء الإكرام ونتذكر قول الملاك للعذراء “مباركة أنت بين النساء” (لو1: 28)، كما يتكلم عننبوة ملاخي “ولكم أيها المتقون إسمي تُشرِق شمس البر والشفاء في أجنحتها فتخرجون وتنشأون كعجول الصيرة” (ملا4: 2)، وفيها يتكلم عن إشراق المسيح في ملء الزمان من العذراء مريم ليُعطي الشفاء من الخطايا ويخلصنا.
القطعة الثانية: مكونة من ثلاثة أرباع، يتكلم عن علو كرامة العذراء فوق السماء والأرض، والملائكة والسارافيم يكرمونها ويمجدونها،لأن الذي على الشاروبيم
القطعة الثالثة: مكونة من ثلاثة أرباع، يتكلم فيها عن كرامة العذراء، وأن الإله الأزلي جاء وتجسد منها، وظلت في بتولية دائمة بعد أن ولدته، أخذ جسدنا وأعطانا روحه القدوس وجعلنا واحداً.
القطعة الرابعة: تتكون من خمسة أرباع، وهذه القطعة لها أهمية خاصة تاريخياً كما قلت سابقاً، وبها تعبيرات بلاغية حيث يقول:”المدينة النفسية التي سكن فيها العلي الجالس على مركبة الشاروبيم” ففيها يصف العذراء بالمدينة المقدسة التي يملكها الملك،كمثل الشاروبيم الذين يحملون عرش الله مللك الملوك ورب الأرباب.
ثم يتكلم عن العلاقة القوية التي كانت بين المسيح والعذراء، حيث حملته على ذراعيها مع أنه المُمَجَد من السارافيم، وأرضعته من لبنها مع أنه هو المعطي طعاماً لكل جسد، وعاش في حضنها وهو طفل كأنه محتاج إلى رعايتها، وهونفسه راعيها وراعي كل الكون برأفته، وهو المخلص لكل البشرية؛ لذلك نحن نسبحه ونمجده ونزيده علواً، كما أن هذه القطعة تُعتَبَر رد على نسطور الذي كان يرفض فكرة أن الله يصير رضيعاً أوطفلاً صغيراً، ولكن هذا النص يوضح أن الله أخذ جسداً خاصاً به ونما نمواً طبيعياً منذ أن كان طفلاً حتى صار رجلاً مثل باقي البشر.
القطعة الخامسة: تتكون من ثلاثة أرباع، وبها تعبيرات بلاغية رائعة حيث يقول “أيتها العذراء مريم والدة الإله الحكيمة بستان العطر الينبوع المقدس الذي للماء الحي” فهي البستان الذي خرج منه العنبر أو العطر كما يقول لحن “تي شوري”، كما هي الينبوع المقدس، وقد قال الرب يسوع للسامرية “ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” (يو4: 14)،ثم تتكلم هذه القطعة عن ثمرة العذراء وهي المسيح الذي خلص المسكونة ونقض العداوة وأعطى السلام، ثم أوضح علاقة هذه الثيئوتوكية بيوم الجمعة حيث ذكر صلب رب المجد على الصليب،حيث رد الإنسان مرة أخرى إلى الفردوس حسب قول المسيح لديماس اللِص “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو23: 43).
القطعة السادسة: تتكون من ربعين، “أيتها العذراء مريم والدة الإله القديسة الشفيعة الأمينة التي لجنس البشر، إشفعي فينا أمام المسيح الذي ولدتيه لكي ينعم لنا بمغفرة خطايانا”، وهي نفس الصلاة التي نصليها في الأجبية وصلاة رفع بخور باكر.
القطعة السابعة: وفيها يتكلم عن فرحة العذراء مريم الغامرة إلى حد الصراخ والابتهاج، كما قالت هي نفسها في تسبحتها الخالدة “تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى إتضاع أمته فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني” (لو1: 46-48)،وهنا نقول لأمنا الحبيبة أم الله نحن نطوبك على الدوام لأنك الأم الحنونة، فتشفعي لأجلنا أمام إبنك الحبيب ليغفر لنا خطايانا.
لينك اللحن بالقبطي بصوت المعلم الكبيرالفنان إبراهيم عياد:
لينك اللحن بالعربي بصوت الشماس المُرتل بولس ملاك: