آليت علي نفسي ألا أضع القلم أو أستسلم للأمر الواقع فيما يخص الإصلاح المرتقب في تشريعات المواريث التي تساوي بين الذكر والأنثي, والتي سبق أن كتبت بخصوصها أنه بينما أتطلع إلي اليوم الذي تترسخ فيه هذه المساواة للمصريين جميعا, أتمسك بصدور لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين حتي ترسخ تلك المساواة فتقدم نموذجا يحتذي لغير المسيحيين.
لكن يبدو أن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه, فبالرغم من أن الطريق معبد لصدور لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين- بموجب نص المادة الثالثة من الدستور: مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود تعد المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية- إلا أننا بعد شهرين ونصف من الآن وبعد فض الدورة البرلمانية الحالية سنحتفل بمرور ثماني سنوات علي الاستحقاق الدستوري والتشريع المنظم له (2014-2022), ونحو خمس سنوات علي بدء الرحلة المضنية لصياغة بنوده (2017-2022), ونحو سنتين علي تسليم صيغته النهائية المعتمدة من جميع الكنائس المعنية إلي الحكومة (2020-2022) ونظل حتي يومنا هذا ننتظر أن تحيله الحكومة إلي مجلس النواب لمناقشته وإقراره, وهو الأمر الذي يعد مشكوكا في إمكانية إدراكه قبل فض الدورة البرلمانية الحالية, وبالتالي يبدو أنه في أفضل الأحوال سوف ينتظر ليدرج ضمن الأجندة التشريعية للدورة البرلمانية المقبلة.
لن أفيض في تكرار الحديث عن التخبط التشريعي الذي عانت منه المرأة المسيحية في مسألة المواريث والذي يمتد عبر 178 عاما (1844-2022), فقد سبق وأن تعرضت له وطني تفصيلا في التحقيق المنشور علي صفحاتها بتاريخ 12 يونيو الماضي تحت عنوان: حظ الأنثي.. إرث المسيحيات المصريات في تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية, وفيه استعرضت وطني كافة التفاصيل والتراكمات التي أفرزت واقعا ظالما بائسا للأنثي والحاجة الملحة لصدور التشريع الذي طال انتظاره والذي يحمل مسمي قانون الأسرة المسيحية منظما لكافة جوانب الأحوال الشخصية المسيحية ومتضمنا القسم الخاص بالمواريث الذي يرسخ المساواة الكاملة المطلقة بين الذكر والأنثي في هذا الخصوص.
لكني من خلال قراءتي المتأنية للمطبوعة التي صدرت عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والتي تحمل العنوان المذكور عاليه أسجل فيما يلي بعض الملامح المهمة التي يتوجب عدم إغفالها لتجسيد الواقع المتراكم الذي يحتم الحاجة إلي صدور التشريع المنتظر:
** يؤدي تقاعس البرلمان عن التصدي لتشريع يطبق الاستحقاق الدستوري الذي يضع حدا لخضوع النساء المسيحيات للتمييز علي أساس النوع الاجتماعي, إلي السكوت علي واقع مسكوت عنه حيث يفضل قطاع كبير من الرجال المسيحيين الاحتكام إلي قواعد توزيع الإرث المعمول بها في قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين في مصر بما تؤمنه من نصيب مضاعف من إرث المتوفين للذكور علي حساب الإناث في أغلب الحالات.
** بحكم المادة 224 من الدستور يلتزم البرلمان بتقديم قانون موحد للأحوال الشخصية للطوائف المسيحية لتفعيل المادة الثالثة من الدستور, كجزء من التزامه العام بإصدار القوانين المنفذة لأحكام الدستور كما تنص المادة, وهو ما يتقاعس البرلمان عنه… وعلي جانب آخر لا يعد غياب هذا التنظيم القانوني رخصة للمحاكم في مخالفة النص الدستوري الصريح, لأنه إذا كان النص الدستوري يحتاج لقانون من أجل تفعيله, فإن غياب القانون لا يعني أن يصبح النص معطلا, بل يجب علي المحاكم أن تلتزم فيما تصدره من أحكام ألا تصبح مخالفة للدستور بدورها, وفي حالة العجز عن ذلك يجب علي المحاكم العليا النهوض لإبطال النصوص القانونية المخالفة للدستور أو لتفسير النص الدستوري وتحديد القواعد القانونية الواجبة التطبيق دون انتظار قيام المجلس التشريعي بدوره.
** المفارقة الواجبة التسجيل أنه بينما فرضت التشريعات تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المواريث, أفلت مبدأ الزيجة الواحدة في المسيحية من طائلة تطبيق الشريعة الإسلامية التي تبيح تعدد الزوجات, وذلك لتمسك الكنيسة المصرية بمبدأ الزيجة الواحدة استنادا إلي وجود نص صريح بذلك في الكتاب المقدس بينما تم تهميش المبادئ المتعلقة بالمساواة بين الذكر والأنثي في الميراث برغم وجود نص كتابي صريح كذلك.. لكن الثابت أن موقف الكنيسة في مسألة الزيجة الواحدة كان صارما متصلبا في حين غاب ذات الموقف في مسألة الإرث.
** درج الكثير من المسيحيين المصريين علي التغاضي عما يرد في إعلامات الوراثة, والقيام بقسمة رضائية وفقا لمبادئ الشريعة المسيحية بالمساواة بين الذكر والأنثي في الإرث -وفي هذا الصدد أفتخر أن أسجل أن كاتب هذا المقال ينتمي إلي هذه الشريحة- ومع هذا تبرز أهمية صدور تشريع لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين التي نحن بصددها إذا أدركنا أن أحكام الشريعة الإسلامية لاقت قبولا لدي قطاع كبير من الذكور المسيحيين إذ بموجبها يستحوذون علي ضعف أنصبة الإناث, وحاول بعضهم تبرير ذلك بأن لا إرادة لهم في الأمر, إنما هم يستسلمون لقانون الدولة الذي تفرضه المحاكم!!!! ولا تعليق لي علي ذلك سوي الاحتياج الماس لإعادة تعريف الرجولة.
*** …ونظل في انتظار صدور لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين.