عادة ما نتجاهل الحديث عن الجلد، ونفضل الحديث عن البشرة، أي تلك الطبقة الخارجية من الجلد، فكلمة البشرة أكثر شاعرية مقارنة بكلمة الجلد التي تبدو مخيفة بعض الشئ لأنها تذكرنا بالأمراض وبالجانب الحيواني فينا. وكلمة البشرة من البَشر، و البِشر والبشارة، وجميعها تعبيرات محببة إلى النفس. أما كلمة “جلد” فتحمل دلالات الضرب والسلخ والقوة. وهكذا نتحدث عن جمال البشرة والعناية بها، إنها صورتنا التي نأمل أن تكون زاهية ونضرة وشبابية. ومع ذلك، فإن الجلد الذي نختزله ثقافيا وجماليا في طبقته الخارجية، أى البشرة، هو من أهم أعضاء الجسم، وهذه أيضا مسألة يتجاهلها الكثير، فهو حائط الصد الأول والأساسى الذي يحمي الجسم من مؤثرات وغزوات البيئة المحيطة المادية والحيوية، وهو سيلتنا للتواصل والإحساس، فهو العضو المسئول عن واحدة من أهم الحواس على الإطلاق أي اللمس. وربما يكون الجلد العضو الوحيد الذى يختص بوظيفة مزدوجة، أي فاعل ومفعول، بمعنى إنه ملامس وملموس فى الوقت ذاته. إن الجلد حماية وهوية ولون ورائحة، وقد وصفه الشاعر الفرنسى، بول فاليرى، بقوله: “أعمق ما في الإنسان هو الجلد”. وكما ورد في “معجم الجسد”، فإن “الحياة هي قصة الجلد بامتياز”.
وإذا كانت بعض الأعضاء تخدم الهوية الجنسية، فإن الجلد هو عنوان الذاتية والهوية بامتياز، فحسب مجلة ناشينوال جيوغرافيك (عدد يونيو 2022)، يشكل الجلد علامة على الهوية العرقية والجنسية والعمرية، فلونه مادة لتصنيفات التميز والتمييز والعنصرية، وملمسه ركيزة التمييز بين الذكورة والأنوثة، وتجاعيده علامة الزمن والهوية العمرية، كما أن بصمات الأصابع كانت ومازالت علامة متفردة عن هوية كل شخص. ولا يقف الأمر عند هذه الحدود، فرائحة الجلد هوية، وجروحه وندوبه علامات. وثقافيا كان الجلد ومازال لوحة لرسومات الهويات الدينية والمهنية والجمالية والعاطفية من خلال الوشم والرسم والنقش بالفحم والطين والحناء. ولأن الجلد هو الكساء الإلهي، فقد بات موضع عناية منذ القدم، بداية من الطب التقليدي إلى الطب الحديث، مرورا بعدد كبير من مقدمي العناية والرعاية كالحلاقين والعطارين، ومتخصصى التجميل والمدلكين، وأصبح موضوع “العناية بالبشرية” سوقا كبيرة لأدوات ومستحضرات وجراحات التجميل.
ومن الجلد والبشرة إلى اللمس، تلك الحاسة التى بدونها ننفصل عن العالم، فاللمس هو التواصل والتعرف واللذة والألم. فاللمس هو الحاسة الأقدم والأكثر ثباتا. وهي كذلك، ليس فقد لأن اللمس كان وسيلة البشر للتواصل قبل الكلام، بل كذلك لأن الجنين في أمه يشعر من خلال الملامسة والاحتكاك بجدار الرحم. واللمس يبقى الحاسة التى نلجأ إليها عندما ينقطع الكلام وعندما نفقد القدرة على التعبير، ولعلنا نعرف تماما مشهد الاحتضان كوسيلة أكثر حميمية وعمق عندما نعجز عن التعبيربالكلام. إن الإنسان يتعايش مع فقدان البصر أو السمع أو النطق، ولكن فقدان اللمس يعني البتر أو الموت.
وفي ناشيونال جيوغرافيك نقرأ: “اللمس مظهر أساسي من مظاهر التفاعل الاجتماعي، وهذا الأخير بدوره حاجة أساسية. غن اللمسة الاجتماعية تهدئ من روع متلقيها في خضم التجارب المجهدة.. قد تقلل النشاط في الأماكن المرتبطة بالتهديد فى الدماغ، وقد تؤثر في تنشيط مسار التوتر العصبى، وتقلل مستويات التوتر”. إنها لغة طبيعة باللمسات عوضا عن الحروف يفهمها الحيوان قبل الإنسان، إن المتعاطفين، كما محبى الحيوانات، يعرفون قوة وسحر اللمسة الحانية. فاللمس يحرك المشاعر، والالتماس يعني رقة الطلب. وهذا فإن حاسة اللمس تواصل وحياة، وكما قال عنها أحد أساتذة علم النفس بجامعة كاليفورنيا: “أنها بالحجة والرهان-لغتنا الأبكر والأساسية للتواصل الاجتماعى”.
وسواء تعلق الأمر بالجلد وإحساسه “اللمس”، فإنهما موضوع للأخلاق، بمعنى الحلال والحرام والمشروع والممنوع. إن الإثارة مسالة ثقافية وبيولوجية، وليس هناك ما يثير القيم والغرائز مثل الجسد العاري. وليس هناك ما يثير الامتعاض مثل الملامسة والاحتكاك القسرى، فمن بين كل أفعال التحرش يعد الاعتداء باللمس الأسوأ. وحتى لغويا فإن اللمس يحيل إلى عالم الجنس والغرائز، فاللمس والملامسة في لسان العرب كناية عن الجِماع، وتحتاج كلمة اللمس إلى صفة كى تتحرر من فخ الغرائز كأن نقول “لمسة حانية أو عطوفة”. وحتى في مجال الطب، ثمة قواعد وآداب تحدد من له الحق في ملامسة جسد المريض.
وأخيرا فإن الجلد موضوع للعقاب والتعذيب والتجريس، بالإيلام أو التشويه أو طبع وصمات العار. وبالمثل فإن الحرمان من اللمس يعد أيضا نوعا من التعذيب، فكم هو مؤلم عندما نشاهد أحباء يتواصلون عبر زجاج فى محاولة يائسة للتلامس. وفى ظروف معينة قد يكون التباعد ضرورة كما فى زمن الوباء، ولكنه تباعد اضطرارى ومؤقت وليس حياة كما أوهمتنا اجهزة الإعلام عندما رفعت شعار: “فى التباعد حياة!”. تماما مثلما يمكننا أننلتقى ونسمع ونرى ونتكلم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي العالم الافتراضي، لكننا نظل محرومين من ذلك الاحساس الفريد والحيوى: اللمس.