العالم يتابع بكثير من الاهتمام والتوجس تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية وما سيسفر عنه الصراع العسكري علي أرض العمليات من ناحية, وما سيسفر عنه الصراع السياسي بين القوي الكبري من ناحية أخري… فالواضح أن هناك حربا شرسة مستعرة تفوق العمليات العسكرية بين إصرار روسيا علي ترسيخ معايير أمنها القومي وبين إصرار أمريكا علي الحط من شأن روسيا وعدم السماح لها باحتلال مقعد هي تستحقه ضمن أقطاب العالم… يتجلي ذلك في سيناريوهات العقوبات الغربية المفروضة علي روسيا- باندفاع أمريكي أهوج وتبعية أوروبية مهينة- وبردود فعل محسوبة من جانب روسيا أسفرت عن كبح جماح العقوبات بل وارتدادها علي من فرضوها… حتي إن التساؤل بات معلقا ملحا يفرض نفسه: هل ستؤتي تلك العقوبات النتائج المرجوة منها أم سترتد في وجه من أطلقوها؟
هذا التساؤل ظل معلقا طوال الأسابيع الماضية لم يشف غليله الكثير من التحليلات والاجتهادات التي بادر بها الكثيرون… حتي اقتحم الساحة علم من أعلام السياسة الدولية -رمزا محسوبا علي العقلية السياسية الأمريكية- ليدلي بدلوه في شأن تقييم المجريات وكيفية رسم صورة للتعامل مع الواقع لتحويله من الاندفاع نحو الدمار العالمي إلي إنقاذ السلام والاستقرار العالمي.
إنه هنري كيسنجر ثعلب الدبلوماسية الأمريكية العجوز الذي بلغ 99 عاما والذي شغل منصب وزير الخارجية الأمريكية (1973-1977) ومستشار الأمن القومي الأمريكي (1969-1975)… والذي قال بسببه الرئيس المصري أنور السادات أمام مجلس الأمة المصري في غمار معركة أكتوبر العظيمة عام 1973: أنا لا أستطيع أن أحارب أمريكا… فقد التقي وقتها السادات بكيسنجر بعد إنجاز العبور العظيم للجيش المصري ومطاردته للقوات الإسرائيلية المحتلة في ربوع سيناء: إن أمريكا لن تسمح بهزيمة ساحقة لإسرائيل ويكفي أن الانتصار التكتيكي للجيش المصري وضع مصر في موقع المنتصر لتجلس رافعة الرأس علي مائدة المفاوضات… وهنا تجلت العبقرية السياسية للسادات التي أدت إلي مائدة المفاوضات التي أسفرت عن استعادة مصر لكامل أرضها المحتلة ورفع العلم المصري علي كامل ربوع سيناء واستعادة الكرامة للجيش المصري العظيم.
هنري كيسنجر المحسوب علي العقلية السياسية الأمريكية أدلي بدلوه أمام المنتدي الاقتصادي العالمي الذي عقد في دافوس بسويسرا الشهر الماضي -ولا غرابة أن في مقدمة جدول أعماله كان بحث تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية- وهذه أهم الملامح في رؤية كيسنجر التي قدمها للمنتدي عبر الفيديو كونفرانس:
** أوكرانيا يجب أن تصبح منطقة عازلة بين روسيا والغرب في شكل دولة محايدة كجسر بين روسيا وأوروبا.
** أوكرانيا عليها التحول إلي تبني الحكمة والتنازل عن أراض لروسيا من أجل إبرام اتفاق سلام دائم في غضون أسابيع… فيجب أن تبدأ مفاوضات بين الطرفين في الشهرين المقبلين قبل أن تتداعي اضطرابات وتوترات يصعب التغلب عليها.
** أحذر الحكومة الأوكرانية وحلفاءها الغربيين: أن الاستمرار في الحرب بعد هذه النقطة لن يكون حول حرية أوكرانيا, بل سيكون حربا ضد روسيا, وذلك سيؤثر بالسلب علي التحالف الغربي وسيدفع روسيا نحو تشكيل تحالف دائم مع الصين, الأمر الذي سيزيد من حدة التوترات العالمية.
** استمرار الأوضاع في الأزمة الأوكرانية كما هي لا يحقق المصالح الأمريكية, والقوة علي الأرض في مصلحة روسيا خاصة في مناطق شرق أوكرانيا الملاصقة للحدود الروسية, ويضاف علي ذلك أن روسيا استطاعت امتصاص تأثير الكثير من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها, بل إن الدول الأوروبية هي التي تشعر الآن بتهديد انقطاع إمدادات الغاز الروسي عنها… إن تقسيم أوكرانيا يجب أن يكون مقبولا لكل من كييف والتحالف الغربي.
بالإضافة إلي ما سبق دعوني أشير إلي ما كتب مراسل صحيفة الأهرام في موسكو الدكتور سامي عمارة الذي طالما أثرانا بتحليلاته الثرية عن الأوضاع في روسيا وأنقل عنه الآتي:
** عشرات البلدان الأوروبية تعود لتبكي علي اللبن المسكوب, صاغرة إلي نصيحة رئيس وزراء المجر, الذي كان أول من رفض مقررات الاتحاد الأوروبي حول مقاطعة صادرات الغاز الروسية, وقبول ما طرحته موسكو من شروط السداد بالروبل.
** بعد إعلان المجر رفضها الامتثال لقرارات الاتحاد الأوروبي بمقاطعة النفط والغاز الروسيين, كان من الملفت أن تعود ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلدان أوروبية أخري إلي الاتصال بموسكو رغبة من جانبها في الاتفاق حول استئناف وارداتها من الغاز الروسي… وها هم رؤساء فرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا يعودون إلي مبادرة الاتصال شخصيا ببوتين للتباحث حول الأمن الغذائي العالمي والوضع في أوكرانيا… حيث أكد بوتين أن عودة الأوضاع إلي سابقتها تبقي شريطة رفع العقوبات المفروضة ضد روسيا.
* هل ينظر العقل الغربي للأزمة الأوكرانية بمنطق واقعي؟.. هل يعترف التحالف الغربي بأن أهداف المقاطعة, والعقوبات المفروضة علي روسيا باتت في مهب الريح؟… هل تدرك المجموعة الأوروبية أنها تستدرج بكل مهانة خلف الجموح والغرور الأمريكي؟!!