جاء قرار محكمة جنايات الإسكندرية الدائرة 22 برئاسة المستشار وحيد صبري, في قضية مقتل القمص أرسانيوس وديد رزق الله كاهن كنيسة السيدة العذراء بكرموز حيث قضت المحكمة بإحالة أوراق المتهم نهرو عبدالمنعم لفضيلة مفتي الجمهورية لأخذ الرأي الشرعي في إعدامه وتحديد جلسة 11 يونية للنطق بالحكم وكانت التحقيقات والتحريات قد كشفت عن ارتباط المتهم بجماعات تكفيرية.
والمدهش أن عددا كبيرا من وسائل الإعلام وبعض أصحاب الرأي قد سارعوا بالإعلان عن أن دافع إرتكاب المتهم لتلك الجريمة البشعة هو إصابته بخلل عقلي دفعه لتلك الجريمة.
ولعل بعض هؤلاء الذين تعجلوا بالحكم واستبقوا تحقيقات النيابة وتحريات أجهزة الأمن كانوا يسعون ـ عن عمد ـ لتهدئة مناخ في حالة توتر بالفعل ولا يجب إشاعة مزيد من القلق بين مواطنيه.
بينما كان البعض الآخر يسعي لتسطيح الأمر ووضع الحادث في سياق جنائي كونه لا يحمل أبعادا أخري فهي مجرد جريمة قتل تحدث كل يوم وفي كل مكان!
كشف قرار المحكمة عن خطأ كلا الطرفين وعن صحة كل من أشار لخطورة الحادث التي لا يمكن قراءتها بعيدا عن جانبها المتطرف والعنصري وقال الكثيرون ـ وأنا منهم ـ إن المتهم لم يكن دافعه للجريمة خللا عقليا أو اضطرابا سلوكيا.
لكن كان الدافع الحقيقي والمنطقي من خلال سياق الحادث هو إجرامي مع سبق الإصرار والترصد.
هذا ما يدفع لإعادة طرح السؤال الملح والمؤجل الانتباه له..
متي تصبح قضايا التنوير ذات أهمية وأولوية في مجتمعنا الذي يعاني من سيطرة مناخ شديدة التردي والقتامة وأصبحت الأفكار الظلامية والقناعات الرجعية تحكم كل تفاصيله واكتسب الكثير منها طبيعة المستقر والثابت في العقل والوجدان.
حتي أن الاقتراب منها صار تجاوزا والتشكيك فيها أصبح جريمة وخروجا عن الناموس.
نحن أمام وضع شديد الغرابة ينذر بخطورة حقيقية.. غرابة لأنه ينمو سريعا في الوقت الذي نعلن ـ رسميا ـ أننا بصدد مواجهة مع الإرهاب والحقيقة أن أجهزة الدولة الأمنية ـ القوات المسلحة والشرطة المدنية ـ خاضت وتخوض حربا ضروسا ضد الإرهابيين دفع خلالها الوطن وما يزال أرواحا زكية وسالت دماء طاهرة علي خطوط المواجهة.
أما عن مواجهة الإرهاب والتطرف فهذا أمر آخر ـ أظنه لم يبدأ بعد ـ لأن هذا يتطلب مشروعا متكاملا لمواجهة كافة الأفكار التي زرعها الإرهاب في البيئة الوطنية سواء المتعلقة بمفاهيم المواطنة وقواعدها والتي يستحيل معها وجود أي شكل من أشكال التمييز.
كما أن تلك المعركة من أهم شروطها أن يكون القائمون عليها مؤمنين بما تتضمنها من عناصر ومحددات في الوقت الذي نجد الكثير من القائمين علي شئون الوطن خاصة القيادات الوسطي يسيطر عليهم ذلك الهوي السلفي ـ الذي يري في الماضي كل الصحة والحقيقة الكاملة.
سوف يقتص القضاء من قاتل كاهن الإسكندرية.
* لكن من الذي سوف يقتص من قتلة العقل الذين يبثون سمومهم ليل نهار دون حساب أو عقاب؟
… من الذي يقتص بمن حرض الإرهابي القاتل وأقنعه أنه يسفك الدماء تقربا من الله؟ من الذي سيحاسب شيوخ الحسبة وأصحاب فتاوي الفتنة علي أفعالهم؟
بالقطع لن يقتص من هؤلاء وغيرهم سوي مشروع ينتصر للعقل ويقوم علي قواعد دولة مواطنية حقيقة بعيدا عن شعارات تتحطم وتنهار أمام أول اختبار وعلي عتبة كل فتوي تكفير أو إقصاء…
كل هذا يفرض علينا طرح أسئلة التنوير المؤجلة.