تنشر وطني اليوم باكورة اقتحامها لملف علي درجة كبيرة من الحساسية لما يناله من الوصم والإدانة عبر سائر مراتب المجتمع… ملف اقتحمته واحدة من المحررات المتميزات هي الزميلة نورا نجيب.. لم تخجل ولم تتردد ولم تؤثر السلامة, بل شعرت بالتزام إنساني ومهني نحو تسليط الضوء عليه وإيضاح كثير من الحقائق المسكوت عنها إيثارا للسلامة من جانب الكافة… حيث يعتبر الجميع أن الشجب والإدانة والتحاشي هي سبل نيل صكوك الشرف والعفة, بينما يبقي قليل من الأمناء يؤدون واجبهم في تحدي الواقع والسباحة عكس التيار للخوض في تفاصيل مؤلمة يحتويها ذلك الملف لإيفاء من تم إنقاذهم منه الحق, ولإعطاء من لا يزالون تحت براثنه الأمل.
إنه ملف المثلية التي تتأرجح بين الوصمة والفضيحة والعار في مجتمعاتنا الشرقية, وبين القبول والاعتراف والتبرير في المجتمعات الغربية… لكن لا يمكن أن ينتهي الأمر عند مجرد الإقصاء شرقا أو الإدماج غربا… فإذا كنا في الشرق ننظر للمثليين علي أنهم خطاة ضلوا الطريق, فواجبنا أن نقبلهم ونفسح أمامهم طرق المراجعة والعلاج والعودة إلي السبيل القويم كأناس أصحاء.
وأعترف أنني وقفت مترددا لوقت أمام نشر هذا التحقيق الذي يضمه هذا العدد من وطني متحسبا لكيفية تلقيه من جانب القراء, لكني علي قناعة تامة بما يحتويه من تعرية صريحة وشجاعة لملابسات قاسية تتصل بواقعه, علاوة علي ارتياحي لصدق مسار التعافي الذي يقدمه غارسا الأمل وكاشفا طريق الخلاص لضحاياه… كما أنني آثرت تقديمه للقارئ في هذا المكان حتي لا يتسلل الشك إلي البعض أن مثل تلك المادة وجدت طريقها للنشر في غيبة من إدراك رئيس التحرير!!
نتناول اليوم حالة مريم بباوي التي تنتمي إلي العقد الرابع من العمر والتي اجتازت رحلة منهكة من الآلام الفتاكة في عالم المثلية والإدمان لتخرج منها بعد سنوات عصيبة في ثوب معالجة نفسية وكاتبة وفنانة… إنها رحلة في غاية المشقة والعذاب والهوان, لكنها جديرة بالتسجيل لما تمثله من طوق نجاة لكل الذين يعتقدون أنهم غارقون.. هالكون.
التقت زميلتنا نورا نجيب بمريم بباوي في إحدي دورات المشورة بكنيسة السيدة العذراء والأنبا أبرآم بفيصل.. تعجبت من جرأتها وصراحتها, وتألمت لمعاناتها, وانبهرت برسالتها نحو اقتحام مستنقع الغارقين في الإدمان والمثلية… وأترك لكم ملامح مما قالت مريم في استعراض تاريخ الملحمة التي عاشتها:
** نشأت في أسرة مكونة من سبعة أفراد, غادرت صعيد مصر لأسكن في القاهرة, لكني احتفظت بالموروثات البالية لأم تفضل الأولاد علي البنات, وأنا الطفلة الأخيرة التي لا يرغب فيها أحد, فاعتبروني خطأ حياتهم… أهملتني والدتي تماما, وكان أبي عنيفا معي دائما لا يتورع عن ضربي دون أي سبب أفهمه… لازمني شعور بالهلع والرعب وعدم الأمان, فشعرت بأنني بلا أهمية وبلا كيان… كرهت المنزل وانطلقت إلي الشارع, كرهت ضعفي وضعف والدتي فكرهت الأنوثة وشعرت بأنني عار.
** تكتمت آلامي وشعرت أنني في غابة, واعتدت ألا أفصح عما يحدث لي, فالجميع يصفونني بأنني مختلة عقليا وغير مهذبة, ولا يصغي إلي أحد… انفصلت عن كياني وعن أنوثتي الضعيفة التي تتسبب في إدانتي المستمرة… ازداد كرهي لكياني ولأنوثتي وملامحها, وازداد تقمصي لعالم الرجال سعيا للقوة والحماية… أدمنت التدخين وازداد كرهي للأنوثة وميلي إلي عالم الرجال… شعرت بحيرتي لأنني لا أدرك إلي أي عالم أنتمي, فأنا فريسة للإهمال الأبوي ولافتقادي لاحتضان أمي… وكانت النتيجة شعوري بأنني في أمان إذا كنت رجلا; لأن عالم الرجال هو الأقوي والأكثر تميزا.
** كانت لدي مشاعر سلبية عن الله; لأنني كنت أفتقد حمايته, كما أن بعض رجال الدين أشعروني بأنني خاطئة ومصيري الهلاك الأبدي وطالبوني بالتوبة… ووقفت عاجزة, فكيف أشعر بمحبة الله الذي لا أراه وأنا لا أشعر بمحبة والدي الذي أراه؟..
** ازداد احتياجي لوالدتي فبدأت علاقتي الجنسية بسيدة في نفس عمرها, وانزلقت في ذلك وشعرت بميولي المثلية إلي أن اختنقت نفسيا وحاولت الانتحار أكثر من مرة, لكن الله كان يفشل هذه المحاولات, ولم أدرك حينها أنه يريدني أن أحيا لرسالة بعينها.
** دبر لي الله النجاة بالتعرف علي فتاة قدمت لي محبة غير مغرضة, فسارعت بالكشف عن مكنونات نفسي, طلبت مني أن نظل أصدقاء, محبتها الخالصة أشعرتني أنها والدتي, عشقت هذه العلاقة وأحببت فيها الأنثي الصافية… قررت البحث عن علاج كي أجد نهاية لمعاناتي, شعرت أن الله وضع هذه الفتاة في طريقي… لجأت إلي دراسة المشورة لكي أساعد نفسي.. لمست سلاما ونورا وعدت أشعر أن الله يحتضنني واشتقت إلي حضن أمي وحنانها ومحبتها وبدأت التصالح مع كياني كأنثي… بدأت أشعر بنجاحي وتميزي, وبدأت أتصالح مع الله وشعرت بالسلام والرغبة في الغفران لكل من أساء لي وأدركت أن أهلي لم يتلقوا الحب حتي يمنحوه لي.
** أشعر أن لي رسالة ودورا في علاج من يمرون بنفس معاناتي… الله الحاني لن يعاقبني ولن يبتعد عني عندما أخطئ لأنه يدرك أعماقي, ويجعلني أشعر بآلام المدمنين والتعاطف مع أوجاعهم وتقدير متاعبهم… لأنهم لا يقدرون علي تغيير واقعهم حتي يتدخل الله ويقوم بدوره ويريهم طرف خيط الشفاء إذا كانت لديهم الرغبة.
** أدركت لماذا خلقنا الله وكيف يتعامل معنا, فالله خلق في الأنوثة الجميلة التي صنعت مني إنسانة جديدة لأنه صديق حنون يراني جميلة في كل حالاتي وسأزداد جمالا وهو يقبلني في كل حالاتي… أغدقوا بالحب علي أبنائكم حتي لا يتسولوه من الخارج.