منذ النصف الثاني من شهر مارس الماضي يشهد الاقتصاد المصري -مع الاقتصاد العالمي- أمواجا متلاطمة تتلاعب بمعايير استقراره, بدأت بتداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية وما أفرزته من ردود أفعال أمريكية- أوروبية ترفع رايات العقوبات والمقاطعة والإقصاء في وجه روسيا, ويتبعها قرار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفع الفائدة علي الدولار بواقع ربع نقطة (0.25%) بهدف سحب السيولة من الاقتصاد العالمي والأسواق الناشئة ومن بينها السوق المصرية… وكان من جراء ذلك تخارج المستثمرين الأجانب والمحافظ الدولية من الاستثمار في أدوات الدين الحكومية, الأمر الذي دعا البنك المركزي المصري إلي اتخاذ قرارات تصحيحية للسيطرة علي توازنات الاقتصاد والسوق واحتياطي النقد الأجنبي, شملت الحد من استخدامات الدولار لتوجيه الاحتياطي النقدي لضمان استيراد السلع الاستراتيجية, بالإضافة لتغطية احتياجات السوق من النقد الأجنبي وتعويض تخارج المستثمرين الأجانب, وسداد التزامات مصر الدولية بالمديونية الخارجية… بالإضافة إلي ذلك قام المركزي المصري بالتعويم الثاني للجنيه منذ نوفمبر 2016, وهو ما أدي إلي تخفيض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار بنحو 14% – لترتفع قيمة الدولار من نحو 15.50 جنيه إلي 18.40 جنيه في غضون أسبوعين- وبالتزامن مع ذلك ولامتصاص تداعياته, وبهدف سحب السيولة من السوق المصرية تم رفع سعر الفائدة علي الإيداعات بالجنيه المصري لتصل إلي نسبة تكاد تكون غير مسبوقة, وهي 18%, وهو ما حقق الهدف المخطط له بدرجة كبيرة ولافتة.
لكن مع كل تلك الإجراءات الجريئة بقيت هناك تساؤلات عالقة تشغل رجال الصناعة والتجارة والاستثمار حول قدرتهم علي الوفاء بمتطلبات أعمالهم من العملة الأجنبية, وفي مقابل سياسات المركزي المصري للحفاظ علي احتياطي نقدي يفي بمتطلبات الدولة المصرية هل يتسع ذلك الاحتياطي لتوفير احتياجاتهم؟… وكانت الإجابة الجديرة بالفحص ما أفرزته الحرب الروسية- الأوكرانية من رد فعل كل من روسيا والصين إزاء قرارات المقاطعة الأمريكية- الأوروبية وإغلاق صمامات الدولار واليورو تماما, حيث أعلنت روسيا عن قرارها إلزام الدول المستوردة لإنتاجها من النفط والغاز والمنتجات الزراعية والصناعية سداد مقابل ذلك بعملتها المحلية الروبل, كما أعلنت الصين قرارها المماثل بتقاضي مقابل صادراتها بعملتها المحلية اليوان.
وبينما لا يزال العالم يرقب ما تسفر عنه تلك القرارات التي يتوقع الخبراء والمراقبون أن تؤدي إلي هز عرش الدولار واليورو, يثير البعض في مصر تساؤلا حول إمكانية أن تحذو بلادنا نحو اتخاذ قرارات مماثلة لإحلال الجنيه المصري محل الدولار أو اليورو في سداد مستحقات الدولة من أجل خلخلة استحكام الطلب علي العملات الأجنبية لحساب خلق طلب متنام علي الجنيه المصري.
وأود في هذا الصدد أن أستدعي من الذاكرة واقعة مشابهة جرت في منتصف تسعينيات القرن الماضي بيني وبين قامة مصرية عظيمة في الاقتصاد وفي الصحافة, حباني الرب أن أتعرف عليها وأعمل تحت أستاذيتها وأتعلم منها الكثير في هذين المجالين خلال عملي في وطني… إنه الأستاذ القدير الدكتور صليب بطرس الذي أسس قسم الاقتصاد في وطني, والذي كان بمثابة معلم فاضل لكل من تعامل معه, ليس بما امتلكه من الخبرة الاقتصادية والصحفية فقط, وإنما بما فاض به علينا من تمكنه من أركان اللغة العربية الرصينة ومن دماثة الخلق أيضا.
كنت جالسا ذات يوم في هذه الفترة التي شهدت إعادة تقييم الدولة المصرية لقيمة الدولار- ولا أقول تعويم الجنيه لأن القرار السياسي وقتها لم يمتلك شجاعة اتخاذ قرار التعويم- وكان أن ارتفعت قيمة الدولار مقابل الجنيه نحو أربعة أضعاف مما كان له تداعيات كارثية علي السوق وأسعار المواد والمنتجات… وبادرت علي استحياء في سؤال الدكتور صليب: هل يمكن لمصر من أجل إعادة التوازن بين الدولار والجنيه أن تطلب من كل دول العالم التي تعبر سفنها وتجارتها قناة السويس أن تسدد مقابل العبور بالجنيه المصري؟… ألا يشكل ذلك تعادلا في الطلب يرفع من قيمة الجنيه, ويحد من ارتفاع قيمة الدولار؟
وبكل هدوء أجابني الدكتور صليب: من الناحية النظرية قد يبدو هذا المنحي مفيدا, لكن ماذا تفعل الدولة المصرية بحصيلة متزايدة من الجنيه المصري في مقابل حصيلة متدنية من الدولار, وهي دولة تتجاوز وارداتها من الخارج صادراتها إلي الخارج بدرجات كبيرة جدا؟… إن الأصل في انتهاج مثل تلك السياسات أن تتكافأ صادراتنا مع وارداتنا إن لم تزد عليها, وذلك هو التحدي الحقيقي الذي تواجهه أي دولة لتفرض إرادتها علي السوق العالمية… ووقتها وعيت الدرس وتحسرت علي التوازنات الحاكمة للاقتصاد المصري, وتطلعت إلي اليوم الذي تحقق فيه مصر اكتفاءها الذاتي من كثير من منتجاتها وتحد من وارداتها وتنمي صادراتها.
الآن نسمع عن أول بادرة تتخذها الدولة المصرية في هذا الصدد, فقد تلقيت بكثير من الارتياح ما نشرته وطني في باب الاقتصاد الأسبوع الماضي تحت عنوان: إيقاف التعامل بالدولار مع الشركات الملاحية الأجنبية… اعتماد الجنيه المصري بديلا للدولار في مصروفات تداول الحاويات يرفع قيمة الجنيه… وتعليق مصاحب للمادة مؤداه: القرار إيجابي وسيؤدي إلي ارتفاع قيمة الجنيه أمام الدولار… والجدير بالذكر أن مصر لديها ثلاث محطات للحاولات الأجنبية: واحدة في شرق بورسعيد تتولي تشغيلها شركة ميرسك العالمية, والثانية في العين السخنة تتولي تشغيلها شركة موانئ دبي الإماراتية, والثالثة في الإسكندرية تتولي تشغيلها شركة صينية… وكان السائد أن أي سفينة أو ناقلة حاويات ترسو في أي من هذه الموانئ تقوم بسداد الرسوم المقابلة للخدمات الخاصة بالتحميل أو التفريغ أو الصيانة بالدولار, أما بعد تطبيق القرار الأخير الذي أصدره وزير المالية محمد معيط فسيتم السداد بالجنيه المصري, الأمر الذي سيؤدي إلي تخفيض الطلب علي الدولار وزيادة الطلب علي الجنيه.