نستكمل دراسة البعد الموسيقي للحن “ليبون أفكاف” (أسبسمس واطس عيد القيامة المجيد):
ونلاحظ في تحليل الجُمَل اللحنية للفكرة الموسيقية أن الملحن الكنسي اهتم بفكرة القيامة من وجهة نظر المسيح الموجود في القبر ولكنه القائم من الأموات، ففي هذا الاسبسمس الواطس لعيد القيامة استفاد من احساس الفرح الوقور في تركيزه على فكرة القبر المقدس الذي ظل فيه رب المجد ثلاثة أيام، ولكن رؤية الكنيسة هنا أن القبر لم يصير مكان للموتى، أوانحدار إلى الهلاك، أو مصير إلى المجهول، أو مكان للحزن أو الضعف أو الاكتئاب كما كان الحال مع جميع القديسين والأبرارمهما كانت قداستهم كان مصيرهم الجحيم منتظرين على رجاء قيامة السيد المسيح، ولكن في المسيح القوي القائم المنتصر أصبح القبر في مفهوم القيامة هو لحظة خلاص لهؤلاء الأبرار، فالمسيح بالموت داس الموت وأصبح القبر مجرد عبور إلى الأبدية السعيدة، أو انتقال من حالة المادة والأحزان إلى حالة الجسد المُمجد والفرح والفردوس والخلود، فقد أعطى المسيح للموت والقبر قوة؛ ولذلك فنحن نسمي السبت الذي ظل فيه المسيح في القبر سبت الفرح والنور، حيث ينبثق النور المقدس من القبر العظيم، ولذلك نجد في اللحن فكرة موسيقية تُعتبر الذُروة اللحنية التي يصل إليها اللحن، ظهرت في الفكرة الأولى في كلمة “إمهاف” (القبر)، وفي تكرار الفكرة ظهرهذا العلو اللحني أيضاً في كلمة “إهوؤو” (يوم)وفيها إقامة المسيح في القبر زمن معين، ثم في التكرار الثالث ظهر نفس العلو في كلمة “الليلويا” وفيها التهليل والفرح بما فعله المسيح من خلاص لكل الذين في القبور وإرسالهم إلى الفردوس،وأخيراً تتكر هذه الجزئية لرابع مرة عند كلمة “إثموؤوت” (الموت).
ونستخلص من هذه الأفكار التي جعلها الملحن نقط تركيز معينة،لنوضح فيها أن فترة القبر هي لحظة القوة، لحظة الخلاص،لحظة الحياة التي ينفتح فيها فمنا بالتسبيح قائلين:هلليلويا المسيح قام من بين الأموات.
وفي ختام التكرار الرابع حيث يحدث انقطاع مُبكر واضح في نهاية الفكرة ليبدأ في القسم الثاني وهو الختام (خلصنا وارحمنا)، بإحساس قوي ونغمات متقطعة ثابتة متكررة تعطي معنى اللجاجة في طلب الخلاص والرحمة، فيها تُكرر النغمة التي هي الدرجة الثالثة في المقام (فا) وهي نغمة غير أساسية في المقام تعطي إحساس التنبيه أو الالتجاء لله، وكأننا نسبق الزمن في تسبيحنا لله الذي قُبر وقام لأجلنا بأن نتلهف و نطلب منه في هذه اللحظات العميقة أن يخلصنا ويرحمنا ونحن مازلنا في هذه الحياة نتأمل ونعيش هذه اللحظات بالايمان؛ حتى نتأهل لأن نقوم معه في حياة لاتنتهي نُشارك السمائيين بالعيان في الأبدية السعيدة.
تحليل القسم الثاني من اللحن:
وكما قلنا أن هذا القسم لا يتغير طول السنة مهما تغيرت المناسبة سواء في كلماته أو نغماته، وهي التسبحة الشاروبيمية ” آجيوس آجيوس آجيوس كيريوس صاباؤت بليريس او أورانوس كى إي جي تيس آجياس سوو ذوكسيس” (قدوس قدوس قدوس رب الجنود مملوؤة السماء والأرض من مجدك الأقدس)، وفي هذا القسم يتحول اللحن من مقام البياتي إلى مقام الصبا وتقل السرعة وتصير أبطأ ADAGIO(من 70-80 نبضة في الدقيقة )، وهي سرعة بطيئة متمهلة بإيقاع ثنائي يُشبه المارش ولكن متحرر من الايقاع يُعطي إحساس أكثر بالروحانية والتأمل.
وهنا ننتقل إلى مشهد حدث مع النبي القديس إشعياء حينما تواجه مع حضور الله مع ملائكته القديسين في هيبة وجلال ووقار،”رأيت السيد جالساً على كرسي عالي ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل السارافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة، بإثنين يغطي وجهه وبإثنين يغطي رجليه وبإثنين يطير، وهذا نادى ذاك وقال: قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض، فاهتزت أساسات العتب من صوت الصارخ وامتلأ البيت دخانا، فقلت ويل لي إني هلكتُ لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكنى بين شعب نجس الشفتين، لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود، فطار إلي واحد من السارافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح ومس بها فمي وقال: إن هذه مست شفتيك فانتُزِع إثمك وكُفِر عن خطيئتك” (إش6: 1-7).
ويتكون هذا القسم من عشر عبارات لحنية، العبارة الأولى:آجيوس الأولى وفيها تنتهي بالركوز السابق (فا) الذي أعطى إحساس التنبيه للفكرة الهامة الثانية.
العبارة الثانية: آجيوس الثانية وفيها يتحرك اللحن ويعلو قليلاًثم يهبط على نغمة غريبة عن المقام السابق ولكنها أساسية في المقام الجديد (صول بيمول) ليتحول اللحن إلى مقام الصبا المليء بالشجن فهو أكثر المقامات تعبيراً عن الحزن والشجن وفيه نتذكر صرخة إشعياء النبي وإحساسه بضعفة وعدم استحقاقه أمام قداسة الله، وهنا نحس بنفس الاحساس ونحن أمام جلال الذبيحة المقدسة التي على المذبح ونردد مع إشعياء قائلين: ويل لنا لو لم يمت المسيح من اجلنا ويفدينا، ويل لنا اذا ظللنا في خطايانا ولم نقدم عنها توبة.
العبارة الثالثة: آجيوس الثالثة وفيها يركز اللحن مرة أخرى على الدرجة الثالثة للمقام (فا) وفيها التعبير عن الخضوع لجلال الله.
العبارة الرابعة: “كيريوس” (رب) وهي نفس إحساس العبارة الثانية.
العبارة الخامسة: “صاباؤوت” (جنود) تكرار لنفس العبارة الثالثة وفيها نتأمل في بهاء منظر الملائكة المحيطين بعرش الله حيث نشارك السمائيين في الخضوع لله.
العبارة السادسة: “بليريس” (مملوءة) لحن يعلو في انسيابيةفيها إحساس التأمل والتعجب من الجو العظيم المُغَلف بالروحانية والقداسة الذي تمتاز به السماء، والذي فيه نشارك السمائيين تسابيحهم.
العبارة السابعة: “أو أوورانوس” (السماء) بها معنى خضوع السماء لله.
العبارة الثامنة: “كي إي جي تيس آجياس” (الأرض)(الأقدس)، وهنا نجد أن النغمات تكون ثابتة متكررة على الدرجة الثالثة (فا) وبها تحفيز وتأكيد أن تتشابه الأرض – وخاصة الكنيسة التي نصلي بها والهيكل الذي عليه الأسرار الالهية مع السماء – وتصبح مقدسة بحلول الله فيها، ونتذكر قول القديس غريغوريوس في الليتورجية من لحظات قليلة قبل هذا اللحن حيث صلى الكاهن قائلا: “الذي ثبت قيام صفوف غير المتجسدين في البشر، الذي أعطى الذين على الأرض تسبيح السارافيم إقبل منا نحن أيضاً أصواتنا مع الغير المرئيين إحسبنا مع القوات السمائية”، وهنا يَركز اللحن للمرة الأولى على أساس المقام الصبا (رى)، بل وعلى أساس اللحن كله، والذي يُعطي للأذن والكيان الهدوء والراحة والسكينة، فنحن في هذه اللحظة نتذكر أحد السارافيم الذي طار الى النبي إشعياء وبيده جمرة من المذبح ومس بها فمه وقال له “انتُزِع إثمك، وكُفِر عن خطيئتك”،وهي نفس اللحظات التي نكون فيها بالقداس الإلهي تائبين ومعترفين ومنتبهين للصلاة ومهيئين بأجسادنا وعقولنا وأرواحنا لحلول الله، ثم نأخذ في نهاية القداس جسد ودم رب المجد؛ حتى تغفر خطايانا فنأخذ الحياة والثبات مع المسيح.
العبارتين التاسعة والعاشرة: “سوذوكسيس” (مجدك) وفيها ينتهي اللحن بنغمة الأساس (رى) وبعمق روحي كبير يؤهلنا للاستماع والإنصات لصلاة الكاهن حين يقول (قدوس قدوس قدوس….).
إن كنيستنا المجيدة استطاعت بعمق الألحان واستخدام المقامات والإيقاعات، أن تُدخِل المُصَلي إلى أقدس فترات الليتورجية،إلى جو من القداسة والروحانية والعمق، وتهييء الجسد والمشاعر والروح عن طريق النغمات التي تُغَلِف الكلمات، وتسحب النفوس إلى أجواء روحانية فيها الدخول إلى قدس أقداس السماء، حيث حضور الملائكة والأجناد السمائية، فتتهيأ أرواحنا بهذه النغمات إلى لحظات التناول المقدسة التي نأخذ فيها أقدس وأعظم عطية في الوجود وهي جسد ودم رب المجد ليدخل أحشائنا ويطهرنا ويغفر خطايانا وينقلنا إلى الحياة الروحية حيث نثبت فيه وهو يثبت فينا.
اللينك الخاص بلحن “ليبون أفكاف ” الأسبسمس الواطس لعيد القيامة المجيد.
اللينك الخاص بلحن “إبتشويس إفنوتي” الأسبسمس الواطس السنوي (أيها الرب إله القوات).
https://youtu.be/MHnBMSgsY5o
وفي نهاية هذا المقال وبمناسبة عيد القيامة المجيد والخماسين المقدسة أحب أن أشارككم ببعض أبيات كنت قد كتبتُها عن موضوع القيامة:
في القيـــامة: انتصارنا في الإلهِ مَن تَحَمَل مــــوتاً بمجدٍ عجــــيبِ
والحياة صـــــارت لنا بعد موتٍ دام أجيـــــــالاً في ظـــلامٍ رهـيبِ
في القيامة: فيض المحبة تَجَلَى في الخلاص الذي ظَهَر في الحبيبِ
وسِــلاحاً وهب لنا كي نُحـــــارب الخطــية وشرَ إبليسَ المعــــيبِ
في القيـــــامة: أقــامنا في ســـرورٍ داعياً للبشر بصــوتٍ مُجــــيبِ
فـــاتحاً للأنــــــامِ باباً بهيـــــجاً لننــعم دومـــاً بــذاكَ النصـــــــيبِ
قمتَ ياربي تمنح الانتصـــــار تهزم الشيطـــــان ظـافراً بالصـليبِ
تقهر المـــوتَ صـــانعاً الســـلام صـــارخاً مُنتهر لصـوت النحيبِ.
منير وصفي
https://youtu.be/MHnBMSgsY5o