إنه غيد تحتفل به الكنيسة كل عام وقد احتفلنا به في الأسبوع الماضي. ولعله أمر تفتخر به بلادنا العزيزة أن السيد المسيح له المجد جاء إلي مصر ومعه السيدة العذراء ويوسف النجار, ومر في أراضينا, وشرب من ماء نيلنا, وبارك كل موضع حل فيه.. نذكر كل هذا أن سرنا في المطرية عند شجرة العذراء المشهورة, أو في مصر القديمة عند كنيسة أبي سرجة, أو إن تتبعنا خطوات مسيرة العائلة المقدسة في الوجه البحري, أو في الوجه القبلي حتي موضع دير العذراء المحرق.
ومجيء السيد المسيح إلي أرض مصر, وإن كان قد ورد في الأصحاح الثاني من إنجيل متي, إلا إنه كان في التدبير الإلهي منذ القدم, فقد وردت عنه نبوءة في العهد القديم في سفر إشعياء النبي (1ش 19: 1, 2) وفي نفس الأصحاح قال الرب مبارك شعبي مصر (إش 19: 25) إنه أمر يدعو إلي الفخر, حقا أن يدعونا الله شعبه منذ القدم.
علي أننا نود هنا أن نتأمل الدروس الروحية التي يمكننا أن نتعلمها من مجيء الرب إلي مصر.
1ـ الدرس الأول هو احتمال الضيقات:
يقول الكتاب كثيرة هي أحزان الصديقين, ومن جميعها ينجيهم الرب (مز 34: 19), ولكن هنا السيد الرب يتعرض لنفس الضيقات, ومن خليقته, هيرودس الملك يفكر في قتل الطفل يسوع, فيهرب من وجهه إلي مصر… ولم تكن الرحلة إلي مصر سهلة وإنما تصوروا مئات الكيلومترات تقطعها العائلة القدسة علي حمارة أو سيرا علي الأقدام, في الصحراء في حر النهار وبرد الليل, من فلسطين إلي مصر…!
ولم تقتصر الضيقات علي تهديد هيرودس للمولود بالقتل, ولا علي مجرد صعوبة الرحلة, وإنما أيضا مالاقوه في مصر من اضطهاد وطرد…
كانوا كلما مروا ببلد, وفيه معبد وثني, تقع أصنامه متحطمة حسب نبوءة إشعياء النبي هوذا الرب… قادم إلي مصر. فترتجف أوثان مصر من وجهه, ويذوب قلب مصر داخلها (إش 19: 1)… وتكون نتيجة سقوط الأوثان أن يطردوهم من تلك المدينة, فيذهبوا إلي غيرها, ويتكرر الطرد منها لنفس السبب.
ولكن نتيجة لهذا كله, تباركت كثير من مدننا بذهاب العائلة المقدسة إليها.
2ـ النقطة الثانية التي نتأملها هي حيل ومؤامرات الأشرار.
يحاف هيرودس حينما يسمع من المجوس أن المولود ملك اليهود (مت 2:2) فيفكر في قتله. ولكنه إذ لا يعرف من هو ذلك المولود علي وجه التحديد, فإنه في غضبه أرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون.. (مت 2:16) وهنا نتذكر قول المزمور الثاني لماذا ارتجت الأمم, وتفكرت الشعوب بالباطل. قام ملوك الأرض, وتأمر الرؤساء معا علي الرب وعلي مسيحه: لنقطع أغلالهما, ولنطرح عنا نيرهما (مز2: 1ـ 3).
إذن إن قابلتك ضيقات في حياتك, قل هكذا حدث للسيد المسيح نفسه, وإن تأمر عليك الأشرار, قل هكذا حدث له أيضا.. بل كان تأمر عليك الأشرار, قل هكذا حدث له أيضا.. بل كان تأمر الأشرار ضده في منتهي القسوة والعنف. وفي ذلك تذكر أيضا قول الساكن في السموات يضحك بهم. الرب يستهزيء بهم (مز 2: 4).
3ـ نقطة أخري نتذكرها: وهي أن الأشرار ـ في قسوتهم وشرهم ـ لا يستفيدون من عمل الله.
هيرودس لم يستفد من النبوءات التي تليت عليه من الكتبة 2:5, 6. فإن الكتاب قد ذكر نبوءة, لابد, أنها ستحقق.. ولكن هيرودس ـ في شره وقسوته وخوفه من ذلك الملك الآتي ـ لم يستفد من النبوءات, بل وقف ضدها..
وأيضا لم يستطع أن يصبر, حتي يكبر ذلك المولود, ويصبح في سن من ينصبونه ملكا, وحينئذ يعتبره منافسا له..!
كذلك الشيطان الذي أهاج هيرودس, لم يستفد أيضا من أمجاد الميلاد سواء من الأحلام والرؤي المقدسة التي ظهرت, ولا من قول جبرائيل الملاك للقديسة العذراء لذلك القدوس المولود منك يدعي ابن الله وإنه يجلس علي كرسي داود أبيه, ولا يكون لملكه نهاية لو 1: 35, 32. ولا استفاد من ظهور الملائكة للرعاة وتبشيرهم بمخلص هو المسيح الرب لو 2: 11.
حقا إن الشر حينما يستولي علي عقل يطمسه فل يري ولا يفهم.. بل يصل الشر إلي الاستهانة بكل ما هو مقدس…
4ـ نستفيد أيضا من المؤامرة علي المسيح التي أدت إلي هربه إلي مصر, أنه مهما تأمر الأشرار, فإن الحفظ الإلهي أقوي وأعظم.
هيرودس الملك أمر بقتل كل أطفال بيت لحم, ظنا منه أن يكون المسيح واحدا منهم. فتكون النتيجة أن هذا الواحد الذي قصد أن يقتله, هو الوحيد الذي ينجو.. إنه الحفظ الإلهي مهما كانت قوة الشر.. وهكذا مات هيرودس, وعاش المسيح.. ما أجمل قول الرب لإرميا النبي يحاربونك ولا يقدرون عليك, لأني أنا معك ـ يقول الرب ـ لأنقذك (أر 1: 19). وقوله للقديس بولس لا يقع بك أحد ليؤذيك (أع 18: 10).
5ـ الدرس الخامس: هو تدخل الله وسط الضيقات: ما كان يوسف النجار, ولا مريم العذراء, يعرفان شيئا عن تدبيرات هيرودس ومؤامراته.. ولكن الله العارف بكل شيء تدخل في الوقت المناسب, وقبل أن يصدر هيرودس أمره بقتل الأطفال, وأوحي إلي يوسف في حلم قائلا قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلي مصر. وكن هناك حتي أقول لك.. (مت 2: 13).
هذا من جهة الله وعنايته. وماذا عن يوسف ومريم؟
6ـ هنا نأخذ الدرس السادس. وهو السير حسب الإرشاد الإلهي.
ما أجمل أن تكون تحركات الإنسان وتصرفاته سائرة تحت الإرشاد الإلهي. هنا يقول ملاك الرب ليوسف خذ الصبي وأمه واهرب إلي مصر, فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا, وانصرف إلي مصر وكان هناك إلي وفاة هيرودس ولما مات هيرودس, إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلا: قم وخذ الصبي وأمه, واذهب إلي أرض إسرائيل. لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي ففعل كذلك (مت 2: 13 ـ 21).
إنه يذكرنا بالشعب في البرية, حينما كانوا تحت قيادة الرب في تحركاته. تقودهم السحابة بالنهار, وعامود النار بالليل كان الرب يسير أمامهم نهارا في عامود سحاب, ليهديهم في الطريق. وليلا في عامود نار ليضيء لهم. لكي يمشوا نهارا وليلا (خر 13: 21).
هكذا كان داود النبي أيضا في استشارته للرب, في حروبه وتحركاته.
هنا نذكر أيضا ما قيل عن يعقوب أبي الآباء قبل نزوله إلي مصر لكي يلتقي بابنه يوسف. كلمه الرب في رؤي الليل وقال له أنا الله إله أبيك. لا تخف من النزول إلي مصر… أنا أنزل معك إلي مصر, وأنا أصعدك أيضا (تك 46: 2 ـ 4).