الزهد كلمة ضخمة ربما يشعر سامعها أنها فضيلة تخص القامات الروحية العالية، أو أولئك الذين قطعوا كل ارتباط بالعالم ليعيشوا منفردين فى الجبال و البرارى، و قد تخلوا عن أبسط ضروريات العيش، و لكن حين نفتش فى الكتاب المقدس نجد أن الفقر الاختيارى أو الزهد بفرح و طواعية هو سمة المؤمنين المسيحيين الأتقياء و ترجمة لمشاعر من التصقوا بالحب العميق مع الرب يسوع أو قل من أدركوا حب المسيح العميق فأحبوه و أحبوا بساطته و تنازله العجيب لأجلنا فاتضعوا و اختاروا هذا الطريق الغنى بكنوز النعمة و أمجادها.
فإن كانت البشرية تسعى الى اغتراف المتع العالمية ليتمتعوا بحياة مؤقتة فهؤلاء سعوا نحو مصدر الحياة لكى يتمتعوا بغنى نعمة غير المحدود، قال احد المتأملين عوض أن تطلب من الله خيرات زمنية لكى تتمتع بالحياة اطلب منه الحياة الأبدية لتتمتع بكل شئ و هو ما قاله رب المجد “اطلبوا أولا ملكوت الله و بره و هذه كلها تزاد لكم” ( مت٣٣:٦)
إننا لا نستطيع أن نجد إنسانا واحدا ذكر فى الكتاب المقدس شبع بالمسيح و فى نفس الوقت ذهب وراء العالم الحاضر فى شره لملذاته و استطاع أن يجمع بين الاثنين معا، بل حتى ما نعتبره نحن ضروريا نظروا اليه باحتقار.
بمجرد ما استقرت عيناه فى شخص المسيح و ارتاحت اذنه لمصدر الحياة وقف زكا متهللا و قال “ها أنا يا رب أعطى نصف أموالى للمساكين و إن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف” ( لو٨:١٩).
فالسمو عن توافه العالم و مظاهره الباطلة الخداعة علامة محبة تلقائية لمن يسعى فى طريق الرب صادقا مع نفسه و ما أخطر قول القديس يعقوب “من أراد أن يكون محبا للعالم فقد صار عدوا لله” ( يع٤:٤).
لذلك لا نعجب ان القديس بولس الرسول يوصى بأنه حتى الثياب التى يلبسها المؤمنون تنتقى بدون مغالاة فى اثمانها فحين يوصى النساء بالحشمة يقول “لا بضفائر أو ذهب أو لآلئ أو ملابس كثيرة الثمن” (١تى٩:٢ ) و مرة أخرى قال “إن كان لنا قوت و كسوة فلنكتف بهما” ( ١تى٨:٦).
و إن تكن فضيلة الزهد ضرورة لاستقامة الحياة الروحية فهى نافعة لأجل حياتنا الزمنية، ففيها تدريب لمواجهة ما نلاقيه فى العالم من صعاب، لا تبهرنا أيام السعة و لا تحنينا أيام الضيق “أعرف أن اتضع و أعرف أن استفضل، فى كل شئ و فى جميع الأشياء، قد تدربت أن اشبع و ان اجوع و ان استفضل و ان انقص” (فى١٢:٤ ) حتى أن علماء الإجتماع يحثون على تربية الأولاد بهذه الطريقة، أن ليس كل ما يتمنوه يجدونه فيشتد عودهم.
فكلما انفكت الربط المادية الثقيلة كلما كان الانسان اكثر حرية، لا شئ يبكى عليه و لا خسارة تحزنه بل أيام غربة تمضى بمكاسبها و خسارتها “ثابت قلبى يا الله ثابت قلبى” (مز٧:٥٧ ). حقا عبر القديس اغسطينوس عن سعادته بالتحرر من قيود العالم حين قال [جلست على قمة العالم حين احسست أنى لا أخاف شئ و لا اشتهى شئ].