نقرأ في سفر الحكمة:وإن دهشوا من قدرتها وفاعليتها فليفهموا منها كم مكونها أقدر منها, فإن عظمة المخلوقات وجمالها يؤديان بالقياس إلي التأمل في خالقها (حكمة13:4-5).
ماذا يعني الجمال بالنسبة لنا؟ هل هو الوجه الجميل فقط؟ هل هو في الملابس الأنيقة الباهظة الثمن؟ نقرأ في إحدي القصص الصينية أن خمسة أشخاص سافروا معا وكانت اتجاهاتهم مختلفة فمنهم الراهب واللص والرسام والبخيل والحكيم, ومع غروب الشمس, وجدوا مغارة مهجورة وكانت بمثابة ملجأ لهم.
فقال الراهب:هذا المكان مناسب للتأمل والاعتكاف, ثم تمتم اللص بصوت خافت:يا له من مخبأ لكل شخص خارج عن القانون, وصرح الرسام هكذا:هذه الصخور والظلال الموجودة علي الجدران تصلح كأداة ممتازة لريشتي, وعندما جاء دور البخيل صرخ قائلا:إنه مكان مناسب لإخفاء كنوزي وأموالي, وبعد أن ساد الصمت, قال الحكيم بكل بساطة:يا لها من مغارة بديعة.
مما لا شك فيه أن الدرس بسيط جدا, ولكنه عميق وأساسي في حياتنا, لأنه يبين الخط الفاصل بين المفيد والجميل.
فالشيء النافع من الممكن أن يحيد عن مساره ويصبح ضارا عندما نضفي إليه صفة التكلفة والثمن فقط, أو من ينظر إلي الأشياء من أجل غرض معين والاستفادة منها فقط, أو يحسبها بالمكسب والخسارة.
إذا لم نمتلك الشعور والإحساس والنبض الجمال لكل ما نراه سواء من مخلوقات الله أو الإيمان أو الفنون, سنفقد البعد الإنساني الذي منحنا إياه الله الخالق والمبدع, والمقصود هنا ليس الجمال الخارجي فقط الذي يتحلي به الأشخاص, ولكن الجمال الكامن في المخلوقات التي نراها كل يوم وفيها نسبح الله الخالق علي إبداعه.
كم من المرات التي فقدنا فيها فرصا جميلة تساعدنا علي السكينة والهدوء وصفاء النفس؟! كان داود النبي ينشد لله مرنما:كللت السنة كرما وأثارك تقطر دسما, تقطر المراعي في الكفار, وتتسربل الآكام بالابتهاج, تكتسي المروج بالقطعان وتتوشح بالحنطة الوديان, تنشد وتتغني بالألحان(مزمور64:12-14).
من يتأمل جمال الخليقة بعين ثاقبة, يستطيع أن يكتشف نور وبهاء مبدعها وخالقها, لذلك لانكتفي أن نملك نظرا سليما لنري الجمال,ولكن يجب علينا أن نتحلي بالإحساس والشعور الداخلي الذي يجعلنا نتمتع بكل ما هو جميل في حياتنا اليومية, ونصل من خلاله إلي الجمال الحقيقي الذي منحنا هذه النعمة لاينكر أحد منا الجمال الكامن في جميع مخلوقات الله, وإذا تحدثنا عن جمال الإنسان, لانقصد به جمال الأجسام وشكلها, لأن السر كل السر في الأرواح, ومما لا شك فيه أن الجمال الداخلي يشع علي الوجه بأكمله وسلوك الإنسان وتصرفاته وكلامه, ومنه يشع الجسد بجاذبية تستميل القلب وتأسر الروح, لكن إذا فقد الإنسان جماله الداخلي, فلا يبقي إلا تناسق أعضاء الجسم وانسجام في الملامح الخارجية فقط, ونستطيع أن نقول:هذا جمال مائت لا روح فيه.
من المجتمل أن يبهج العين, لكنه لايحرك القلب والروح.
وكان أحد الآباء ينصح ابنته قائلا:كوني طيبة القلب, لتصبحي جميلة.
لأن الجمال ليس في الثياب التي نرتديها مهما كانت ثمينة وأنيقة, أو المساحيق التي نضفيها علي الوجوه, أو العطور التي نتعطر بها, ولكنه شعاع روحاني ينعكس علي الإنسان فيكسوه سحرا وجمالا وجاذبية بريئة, وهذا نجده في الشخص الذي يتحلي بالأخلاق الحميدة والفضائل.
وكما يقول المثل الإيطالي :الجمال بلا فضيلة يشبه منزلا بلا باب, وربيعا لا ماء فيه.
نحن نعيش عصرا تغزوه صور ومشاهد عديدة, ولكنها لاتدل علي الجمال والصفاء والنقاء, لذلك نحن بحاجة ضرورية وملحة إلي تنقية وفلترة ما نراه حتي لا نشوه معني الجمال الحقيقي الموجود في المخلوقات والإنسان, وهذا الجمال لايزول أبدا مهما تغيرت الظروف التي نمر بها, لأن الله وحده مصدر هذا, وكما يقول داود النبي:انظروا إلي الرب تشرق جباهكم(مزمور33:6).
وهذه النظرة مبنية علي كيفية رؤيتنا لكل ما هو مخلوق إذا, يجب أن نعود أنفسنا التأمل في كل شيء بعين بسيطة وشفافة, لنتأمل الزهور الباسمة في الصباح التي تشع منها النضارة والعطر والجمال التي نسعد الإنسان بالطيب وتهب العين هناء وسرورا لنتأمل لوحة الله الخالق من الفن والجمال, لأن كل ما في الكون سخره الله لنا لنتمتع به ونسبحه علي الدوام.
ونختم بكلمات الفيلسوف Lavater:الوسيلة الوحيدة لتجميل المحيا هي تجميل أنفسنا قدر المستطاع.