علاقة المحبة والمودة والتعايش والمشاركة التي طالما ربطت بين المصريين مسلمين ومسيحيين سوف تظل دوما العمود الفقري الذي يستند عليه هذا الوطن, وستبقي هي الملاذ الذي ينقذه من التعثر أمام أي حياد عن الطريق القويم, فإذا كنا نؤمن بأن الأساس السليم الذي يستقر عليه الوطن هو دعائم الدولة المدنية الحديثة, ونعرف ذلك بدولة المواطنة, حيث تجمع المواطنين متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات, لا يخلو الأمر في بعض الأحيان من انزلاق الأمور نحو ما يهدد السلام الاجتماعي ويستدعي سرعة التدخل لرأب الصدع.
هذا عينه ما يطرأ علي الساحة المجتمعية بين الحين والآخر, تغذيه فتاوي تصدر عن غير أهل الفتوي, أو ممارسات متشددة من بعض ضعاف النفوس, وكان من الممكن غض البصر عن ذلك لولا أننا نعيش عصر وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تترك شاردة عابرة دون أن تلتقطها وتؤججها فتثير لغطا واضطرابا بين العامة, وهنا يتوجب علي أولي الأمر والقادة والحكماء سرعة التدخل لضبط الأمور وإعادتها إلي نصابها الطبيعي.
ولعل من أبرز القامات التي ينظر إليها الكافة للقيام بهذا الدور المرتبط بإصلاح وتطوير الخطاب الديني فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف.. والحقيقة أن فضيلته استشعر في الفترة الأخيرة ـ وخاصة مع حلول شهر رمضان المبارك ـ تسلل بعض الفتاوي والممارسات التي تأخذ منحي التدين المرتبط بالشهر الكريم, بينما هي لا أساس لها في صحيح الدين, وتهدد السلام والوئام الاجتماعي, فتفضل مشكورا وبادر بالتصدي لها وامتصاص تداعياتها… وكانت لفضيلته هذه التصريحات:
** الإسلام ينظر لغير المسلمين من المسيحيين واليهود من منظور المودة والأخوة الإنسانية, والمواطنة لا تتوقف عند اختلاف دين أو اختلاف مذهب, فالكل متساوون في الحقوق والواجبات, وهو ما يمثل أساس العلاقة بين المصريين, ويمثل بدوره أساس بناء الدولة الحديثة, وبجانب ذلك تأتي المودة والأخوة الإنسانية كمجال رحب يجمع المتدينين ويضفي علي المساواة القانونية بينهم طابعا إنسانيا ووجدانيا.
** حق المواطنين كافة في ممارسة شعائرهم الدينية وحماية خصوصياتهم هو أمر مفروغ منه طالما لا فرق بينهم بسبب الدين أو المعتقد, ولا مجال إطلاقا لولاية تمارسها جماعة من المواطنين علي أخري, لأن كليهما مواطنون يخضعون لحكم الدستور والقانون.
** التضييق علي المسيحيين في بناء الكنائس ليس من الإسلام, بل يعود إلي عادات وتقاليد قديمة لم يأت بها القرآن أو السنة النبوية.
** التضييق علي المسيحيين في مأكلهم أو مشربهم بنهار رمضان بدعوي الصيام هو سخف لا يليق ولا يمتد للإسلام بصلة.
*** تعليق: دعوني ألفت النظر لأمر يستلزم التوضيح هنا.. فبجانب نهي المسلمين عن التضييق علي المسيحيين في مأكلهم أو مشربهم بنهار رمضان تتطلب مشاعر المودة والأخوة الإنسانية السائدة بينهم أن يتحلي المسيحيون بالكياسة والتقدير وعدم الإسراف في المأكل أو المشرب علانية احتراما لصوم ولمشاعر المسلمين, كما يجب أن يتفهم المسيحيون أن إغلاق الكثير من المقاهي أو المطاعم في ساعات الصباح وعدم تقديم خدماتها للجمهور ليس بالضرورة لإحجامها عن خدمة المسيحيين, لكن يرجع في معظم الأحيان إلي امتداد ساعات عملها إلي ما قبل فجر اليوم السابق لتلبية وجبات السحور, الأمر الذي يترتب عليه إتاحة فترات كافية لراحة العمالة قبل عودة العمل في اليوم التالي.
** تحريم تهنئة المسيحيين في أعيادهم أو النهي عن أكل طعامهم أو مواساتهم في شدائدهم أو مشاركتهم في أفراحهم, هو سلوك يعبر عن فكر متشدد لا يمت للإسلام بصلة.
** بناء مسجد أمام كنيسة يزعج المسيحيين, وهو نوع من الإيذاء المنهي عنه, وكذلك أنا ضد بناء كنيسة أمام مسجد, لأن هذا الأمر أيضا يزعج المسلمين, وهو نوع من الإيذاء والتضييق ولمن يأتون بهذه الأفعال أقول أرض الله واسعة.
*** تعليق وعتاب: فليسمح لي فضيلة الدكتور أحمد الطيب أن أسأل: متي كان بناء مسجد أمام كنيسة يزعج المسيحيين؟.. ومتي كان بناء كنيسة أمام مسجد يزعج المسلمين؟.. إن تاريخ مصر في شتي الحقب يعج بالمواقع القديمة التي تحتضن كلا من المساجد والكنائس, وسائر محافظات ومدن وقري مصر تتجاور فيها المساجد والكنائس, وطالما كانت روح المودة والأخوة الإنسانية بين المصريين تتسع وترحب وتحتفي بتجاور وتقارب المساجد والكنائس.. صحيح أنه مر علينا زمن صعب حالت فيه التشريعات دون تيسير بناء الكنائس بمقولة مواجهتها لمساجد, لكن أبدا لم يكن هذا هو الأصل.
والآن في ظل الدستور الجديد والتشريعات الجديدة لقانون بناء وترميم وتقنين أوضاع الكنائس عادت الأمور إلي سابق اعتدالها, ولا أتصور أننا نخدم روح المودة والأخوة الإنسانية بين المصريين إذا غرسنا بذور انزعاج المسيحيين من المسجد أو المسلمين من الكنيسة… فلتتجاور جميع مساجد مصر مع كنائسها وما يعكسه ذلك من تفرد وأصالة مصر والمصريين.